الآداب والأخلاق والرقائق » الرقائق.
224448:فتنة الشيطان حال الاحتضار
السؤال :
هل صحيح أن الشيطان قد يحضر الإنسان عند الاحتضار ،
حتى يموت الإنسان كافرا وإن كان عمل طول حياته بعمل أهل الجنة ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
ذكر الله في كتابه الكريم قسم إبليس اللعين وتوعده
بني آدم بالإضلال والغواية ، وأنه ماض في ذلك إلى
يوم القيامة ، لا يترك سبيلا إلا سلكه في سبيل
ملء جهنم من ذرية آدم عليه السلام ،
قال تعالى : ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ،
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ، وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ )
الأعراف/16-17 .
يقول ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (5/445) :
" معناه : ثم لآتينهم من جميع وجوه الحق والباطل ،
فأصدهم عن الحق ، وأُحَسِّنُ لهم الباطل " انتهى .
والشيطان يحاول أن يستغل مواطن الضعف ،
فإذا وجد البلاء قد اشتد على المؤمن ، والكرب قد استحكم ،
فإنه يدخل في طريقه ليفسد عليه إيمانه ، فيكون من أهل النار .
ولا شك أن حال الاحتضار حال كرب وشدة ،
فسكرات الموت أمرها عظيم وشديد ،
وقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم منها الشيء العظيم ،
حتى كان يقول صلى الله عليه وسلم :
( إِنَّ لِلمَوتِ لَسَكَرَاتٍ ) رواه البخاري (4449) .
ولما عرفت ابنته فاطمة ما يلقاه من شدة قالت :
( وَاكَربَ أَبَاه ) رواه البخاري (4461) .
والمظنون أن الشيطان لن يُفَوِّت ابن آدم في هذه الحال ، فهي فرصة له .
عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله
عليه وسلم يقول : ( إِنَّ الشَّيطَانَ يَحضُرُ أَحَدَكُم
عِندَ كُلِّ شَيْءٍ مِن شَأنِهِ ) رواه مسلم (2033) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال) : قال إبليس :
وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم
في أجسادهم ، فقال : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر
لهم ما استغفروني) .رواه أحمد (10974) ،
وحسَّنه الألباني في "صحيح الترغيب " (1617) .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته
يسأل الله تعالى ألا يسلط عليه الشيطان عند الموت ،
لِيُعَلِّمَ المسلمين الحرص على السلامة من فتنة الشيطان .
عن أبي اليسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو :
( الَّلهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَدمِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَرَدِّي ،
وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الغَرَقِ وَالحَرَقِ وَالهَرَمِ ، وَأَعُوذُ بِكَ أَن يَتَخَبَّطَنِي الشَّيطَانُ
عِندَ المَوتِ ، وَأَعُوذُ بِكَ أَن أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدبِرًا ،
وَأَعُوذُ بِكَ أَن أَمُوتَ لَدِيغًا )
رواه أحمد (3/427) ، وأبو داود (1552) وسكت عنه ،
والنسائي (5531) ، وقال الحاكم في المستدرك (1/713) :
صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
قال في "عون المعبود" (4/287) :
" ( أن يتخبطني الشيطان ) أي : إبليس أو أحد أعوانه ،
قيل : التخبط الإفساد ، والمراد إفساد العقل والدين ،
وتخصيصه بقوله ( عند الموت ) ؛ لأن المدار على الخاتمة .
وقال القاضي : أي من أن يمسني الشيطان بنزغاته
التي تزل الأقدام وتصارع العقول والأوهام .
قال الخطابي : استعاذته عليه الصلاة والسلام
من تخبط الشيطان عند الموت ، هو أن يستولي عليه
الشيطان عند مفارقته الدنيا ، فيضله ويحول بينه وبين التوبة ،
أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قِبَله ،
أو يؤيسه من رحمة الله تعالى ، أو يكره الموت ويتأسف
على حياة الدنيا ، فلا يرضى بما قضاه الله من الفناء ،
والنقلة إلى دار الآخرة ، فيختم له بسوء ، ويلقى الله وهو ساخط عليه .
وقد روي أن الشيطان لا يكون في حال أشد على
ابن ادم منه في حال الموت ، يقول لأعوانه : دونكم هذا ،
فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه بعد اليوم .
نعوذ بالله من شره ، ونسأله أن يبارك لنا في ذلك المصرع ،
وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه " انتهى .
وفتنة الشيطان في تلك الساعة فتنة شديدة ،
لما يكون عليه المسلم من تعب وكرب ،
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها في دعائه في كل صلاة .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُم فَليَستَعِذ بِاللَّهِ مِن أَربَعٍ : يَقُولُ :
الَّلهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عَذَابِ جَهَنَّمَ ، وَمِن عَذَابِ القَبرِ ،
وَمِن فِتنَةِ المَحيَا وَالمَمَاتِ ، وَمِن شَرِّ فِتنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ )
رواه البخاري (1377) ، ومسلم (588) .
يقول ابن حجر في "فتح الباري" (2/319) :
" قال ابن دقيق العيد : فتنة المحيا ما يعرض للإنسان
مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات ،
وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ، وفتنة الممات :
يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت ، أضيفت إليه لقربها منه ،
ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك ،
ويجوز أن يراد بها فتنة القبر " انتهى .
ثانيا :
فتنة الشيطان للمسلم حال الاحتضار تكون بالوسوسة ،
كما هي في حال الحياة .
ولكن هل ثبت في السنة ما يدل على
أن الشيطان يتمثل بصورة أحب الناس لهذا المحتضَر ،
فيدعوه إلى النصرانية أو اليهودية ؟
ذكر ذلك بعض أهل العلم في كتبهم :
قال القرطبي في "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" (29-30) :
" روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
أن العبد إذا كان عند الموت قعد عنده شيطانان ،
الواحد عن يمينه والآخر عن شماله ، فالذي عن يمينه
على صفة أبيه ، يقول له : يا بني ! إني كنت عليك
شفيقاً ولك محباً ، ولكن مت على دين النصارى
فهو خير الأديان ، والذي على شماله على صفة أمه ،
تقول له : يا بني ! إنه كان بطني لك وعاء ،
وثديي لك سقاء ، وفخذي لك وطاء ،
ولكن مت على دين اليهود وهو خير الأديان .
ذكره أبو الحسن القابسي في "شرح رسالة
ابن أبي زيد" له ، وذكر معناه أبو حامد في كتاب " كشف علوم الآخرة " .
وما ذكره القرطبي ليس عليه دليل من الكتاب أو السنة ،
إذ لم يثبت حديث في ذلك ، إنما هي روايات يتناقلها
بعض أهل العلم في كتبهم ، ليست موجودة
في كتب الحديث المعتمدة .
قال الألباني في " السلسلة الضعيفة والموضوعة " ( 3/645) :
قال السيوطي : لم أقف عليه في الحديث " انتهى .
فلا يجوز نسبة ذلك إلى الشرع ، ولا يجوز تخويف الناس به ،
ولا القول بأن تمثل الشيطان عند الموت لازم لكل أحد ،
فإن الشرع لم يأت بذلك ، إنما الثابت هو الوسوسة
ومحاولة الإغواء للتسخط على القدر من شدة الكرب .
وإذا كان ذلك لم يثبت في حديث ، فإننا أيضا لا نستطيع
أن ننفيه ، فإن للشيطان حيلا كثيرة ، وطرقا عديدة ،
وهو قادر على حضور الإنسان بصور شتى ،
وقد يقع ذلك لبعض الناس عند الموت .
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية "مجموع الفتاوى" (4/255) :
عن عرض الأديان عند الموت ،
هل لذلك أصل فى الكتاب والسنة أم لا ؟
فأجاب : الحمد لله رب العالمين :
أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمرا
عاما لكل أحد ، ولا هو أيضا منتفيا عن كل أحد ،
بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته ،
ومنهم من لا تعرض عليه ، وقد وقع لأقوام ،
وهذا كله من فتنة المحيا والممات التى أمرنا أن
نستعيذ منها فى صلاتنا ... ولكن وقت الموت أحرص
ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم ؛ لأنه وقت الحاجة ،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح :
( الأَعمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا ) ، وقال : ( إِنَّ العَبدَ لَيَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ الجَنَّةِ ،
حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ ، فَيَسبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ ،
فَيَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ النَّارِ فَيَدخُلهَا ، وَإِنَّ العَبدَ لَيَعمَلُ بِعَمَلِ
أَهلِ النَّارِ ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ ،
فَيَسبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ ، فَيَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ الجَنَّةِ فَيَدخُلُهَا )
[ رواه البخاري (3208) ومسلم (2643)] .
ولهذا روي : أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم
حين الموت ، يقول لأعوانه : دونكم هذا ! فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبدا .
وحكاية عبدالله بن أحمد بن حنبل مع أبيه وهو يقول :
( لا بَعدُ ، لا بَعدُ ) مشهورة " انتهى .
وقد وقع ذلك لبعض الصالحين :
يقول القرطبي رحمه الله "التذكرة" (30) :
" قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حضرت وفاة أبي
ـ أحمد ـ وبيدي الخرقة لأشد لحييه ، فكان يعرق
ثم يفيق ويقول بيده : لا بعد ، لا بعد . فعل هذا مراراً !!
فقلت له : يا أبت أي شيء ما يبدو منك ؟ فقال :
إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله يقول :
يا أحمد فُتَّنِي ، وأنا أقول : لا بعد ، لا حتى أموت .
قلت : وقد سمعت شيخنا الإمام أبا العباس
أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول :
حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد
القرطبي بقرطبة وقد احتضر . فقيل له : قل : لا إله إلا الله ،
فكان يقول : لا . لا . فلما أفاق ذكرنا له ذلك فقال :
أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي . يقول أحدهما :
مت يهودياً فإنه خير الأديان ، والآخر يقول : مت نصرانياً
فإنه خير الأديان ، فكنت أقول لهما : لا ، لا " انتهى .
ثالثا :
إذا عرف المسلم عظم أمر فتنة الممات عند الاحتضار ،
وأنه على موعد مع كرب عظيم ، استعد لذلك اليوم ،
وتزود من العمل الصالح ، ورجى أن يكتب الله له حسن الخاتمة ،
فإن الله تعالى يحمي عبده المؤمن ، وإذا رأى منه صدق
القلب والمحبة ، عصمه من المزلة ، وصرف عنه الغواية ،
فلا يظنن أحد السوء بالله تعالى ، فهو عدل كريم ،
لا يخذل عبده المؤمن ، وحرم على نفسه الظلم ،
فلا تجد ، إن شاء الله ، من يفتنه الشيطان في مثل
هذه المواقف إلا من كان معرضا عن الله ، ومقبلا على
الشيطان ، فذلك هو الذي يتخبطه الشيطان عند الموت ،
كما تخبطه في الحياة .
يقول ابن القيم في "الجواب الكافي" (62) :
" فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه
قلبه عن ذكره ، واتبع هواه وكان أمره فرطا ، فَبَعِيدٌ
مَن قَلبُه بعيد من الله تعالى ، غافل عنه ، مُتَعَبَّدٌ لهواه ،
مُسَيَّرٌ لشهواته ، ولسانه يابس من ذكره ،
وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصية الله ،
أن يوفق لحسن الخاتمة " انتهى .
والله أعلم .
موقع الإسلام سؤال وجواب