بسم الله الرحمن الرحيم
الذي يريد إن يدخل الجنَّة التي فيها رسول الله ماذا يفعل ؟ ينظِّف القلب كما ينظَّف الوجه ، فإن أحد
الصالحين كان جالساً ، ودخل عليه عالم ممن يدعون العلم ، و حيىَ وجلس ، فقال الرجل الصالح لأحد
أبناءه : أنشد يا بني قصيدة ؛ فأنشد ، فقال العالم : ماذا يقول هذا؟ أنا لا أفهم منه شيئا - و هو عالم ، و
يلبس أفخر الثياب ، و الحذاء يلمع , فقال له :لو نظفت قلبك كما نظفت حذاءك ، لفهمت هذا الكلام
فمن كان كل همِّه في الملبس ، و الشعر ، و الحذاء ، و ترك القلب دنسا ، كيف يفهم المعاني العليَّة؟
فربُّنا ربُّ قلوب ، و تجليَّاته للقلوب ، و نفحاته للقلوب ، و علومه و أسراره للقلوب ، و أنواره للقلوب ،
ورتبه للقلوب ، وقربه لأهل القلوب ، وتقريبـه بالقلوب ، فهي الوصلة بيننا وبينه ، فمن يرغب أن يكون
قريباً من القريب؟ فعليه بالقلوب
وهذا القلب كيف ننظِّفه؟ أبالماء البارد أم الساخن ؟ لا هذا ولا ذاك يفعل شيئا للقلب ، هل نستحم في
ماء البحر ؟ لا ينفع ، أحد الأئمة ذهب إلى البحر المتوسط ، ووقف عنده ، و كان اسمه بحر الروم ، و
قال له :
قليلك قد يطهِّر كل جسمي ،،،،،، يطهِّر بحر روم كل رسمي
وقلبي لا تطهِّره بـحــار ،،،،، يطهره العليم بنيل علمي
فالذي يطهر القلب العلم ، لكن ليس آي علم ، و أنما العلم النازل من عند الله ، وليس علم الكتب فالعلم
النازل من السماء ، كالماء النازل من السماء ، فكما أن كل ماء لم ينزل من السماء لا ينفع ، كذلك كل
علم لا ينزل من سماء الفضل الإلهي لا يرفع
فالماء الذي في البرك ؟ هل يصلح لري الزرع ؟ لا. لماذا ؟ لأنها تعفنت ، فهذه كالعلم الموجود في
الكتب ، إذاً ما العلم الرافع؟ هو العلم النازل من سماء الفضل الإلهي لذلك فإن العلماء الذين تعجبوا
من ذلك ، ذهبوا للشيخ أبى اليزيد البسطامى , وسألوه : كيف تؤثر في الناس بهذه الصورة ؟ وتصلح
أحوالهم ؟ ونحن نتكلم كثيرا وكلامنا لا يجدي؟ فوضح لهم السر فقال :
{أخذتم علمكم ميتاً عن ميت - فلاناً عن فلان ، وهذا مات وهذا مات - , ونأخذ علمنا عن الحي الذي لا
يموت ، فنأخذ علمنا في أي وقت شئنا ، وكيف شئنا} وهذا من باب قول الله {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}
البقرة282
فلم يقل الشيخ فلان أو كليَّة كذا ؛ لأن هذا العلم لا يأتي إلا بالتقوى
وربنا لم يقل {واتقوا الله يعلمكم الله} ، فلو قال هذا لكان علما واحدا وكل من يتقِ الله يأخذه ، و لكنَّه
قال{وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} أي كلما تزيد في التقوى كلما تأخذ علوما أكثر وهكذا ، حتى تصل إلي ما
ورد في الأثر {إنَّ اللَه يُفِيضُ عَلَىَ قُلُوبِ أهْلِ الْمَعْرِفَةِ ، سَبْعِينَ ألْفَ عِلْمٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالى} أين هذه
السبعون ألفا ؟وما حدودها؟
هذه العلوم أسرار في صدروهم ، لكنها علوم ترفع الإنسان ، وتطهِّر قلبه ، وتوصِّله إلى أنوار الله ،
فهذه طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضحَّها لنا الله ، وأجرى عليه المثال ؛ ليعرفنا أنه إذا
كان هذا الرسول الكريم ، المبرأ من كل عيب ، قد شققنا صدره أربع مرات ، وأخذنا حظَّ الشيطان
وألقيناه وأخذنا الغلَّ والحقد وألقيناهما، وملأناه شفقة ورأفة ورحمة، فأنتم أولى بذلك لأنكم أحوج إلى
ذلك
فأول مرة تشقه وتخرج حظَّ الشَّيطان ، بعد هذا تملأ قلبك رأفة ورحمة لجميع خلق الله ، لأن الله يحبُّ
العبد الشفوق الرفيق ، ولا يحبُّ الغليظ ولا الفظَّ ، ولذلك قال له {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ
غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران159
والمرَّة التالية : أخرج كل ما فيه ، وإملأه إيمانا وحكمة ، إحشُ هذا القلب بالإيمان ، وعلوم الإيمان
والحكمة ، وعلوم الحكمة ، ولا تحشه من كلام الصحف ، ومن الغيبة ، ومن النميمة ، ومشاكل
التموين ، ومشاكل السياسة ، ومشاكل الكرة ، فهذا لا يناسب ذاك
فهذا رجل من كبار العرب - وهو لبيد بن ربيعة - وكان شاعرا من كبار الشعراء ، وقصائده كانت
مكتوبة بماء الذهب ومعلقة علي الكعبة لأنه من أصحاب المعلقات ، لمَّـا أتاه ربُّنا بالإسلام جاءه نفر ,
وقالوا له :نريد أن تذكر لنا قصيدة من شعرك فغضب , فقالوا له :ما أغضبك؟ ، فقال لهم : ما كنت
لأملئ قلبي بهذا القيح والصديد ، بعد أن ملأه الله بنور القرآن والإيمان ، فأصبح الشعر كالقيح والصديد
بالنسبة له ، فلا يستوي هذا مع ذاك ، وتاب من الشعر
فلا بد للإنسان لكي يملئ قلبه بعلوم الإيمان ، أن يفرغه مثل الكوب ، فلكي يكون الماء الذي سيصبُّ
فيها نظيفاً ؛ لابد أن تكون هي نظيفة ، لكن إذا كان بالكوب بعض الأتربة ، فالماء الذي سينزل فيه
سيتلوَّث وهكذا علوم الله الإلهامية ، وأحوال الله العليَّة ، والرؤيـات والمكاشفات المناميَّة ، والعيانيَّة :
لا تظهر ، و لا تُعطي ، إلا لمن طهَّر القلب بالكليَّة لربِّ البريَّة