   
رد: مدونة المحاضرات والخطب الاسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات إعمالنا، من بهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عبيه وعلى آله وأصحابه ومن أهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموضوع هذه الليلة بعنوان المحرومون
أيها الأحبة:
وأعتذر أيضا للأخوات:
فلا نجزع من كلمةِ محروم، بالرغمِ من قساوتِها فالكثيرُ منا يشعرُ بالحرمان.
وينالُ الإنسانَ من الحرمان بقدرِ بعدهِ عن طاعةِ الله.
وسأوجهُ خطابي إلى المحرومين، وسأناديَ المحرومين كثيرا، فلا نجزع فقد يكونُ المحرومُ أنا.
وقد تكونُ أنت وقد يكونُ فلاناً أو فلانة، وقد نكونُ جميعاً.
فالحرمانُ يتفاوتُ من شخصٍ لأخرَ، ويختلفُ باختلافِ الأحوالِ والأشخاص.
فقد تُحرمُ الراحةَ والسعادة.
وقد تُحرمُ لذةَ السجودِ والركوع.
وقد تُحرمُ قراءة القرآنِ وتدبرِ آياته.
وقد تُحرمُ كثرةَ الذكرِ والاستغفار.
وقد تحرمُ لذةَ الخشوعِ والبكاءِ من خشيةِ الله.
وقد تُحرمُ بر الوالدينِ والأنسُ بهما.
وقد تُحرمُ لذة الأخوةَ في الله.
وقد تُحرمُ السعادةَ الزوجيةَ.
وقد تُحرمُ أكل الحلالِ ولذتهِ.
وقد تُحرمُ التوبةَ والندمَ على ما فات.
وقد تُحرمُ حسنَ الخاتمةَ.
فيا أخي الحبيب، ويا أختي الغالية قد نحرمُ هذه الأمورَ كلَها، وقد نحرمَ الكثيرَ منها، وقد نحرمُ القليل منها، والسعيدُ من جمعها ووفقَ إليها وقليلٌ ما هم.
فإن كنتَ منهم فأذكر نعمةَ اللهِ عليك، وأشكره، واعلم أن من تمامِ شكرَه النصحَ للمسلمين فلا تحُرم نفسكَ اجر التبليغ فالدالُ على الخيرِ كفاعلِه.
إذا فقد يصيبَك من الحرمان ولو القليل، فأحتمل خطابي وأحتمل مناداتي لك بـيا أيها المحروم، فإنما قصدتُ بها الشفقةَ والرحمةَ والحب والنصحِ.
وأعوذ بالله أن أكونَ من الشامتين فأنا أولُ المحرومين.
أسأل الله عز وجل أن يحيينا حياة طيبة، وأن يتوب علينا توبة صادقة.
كثيرٌ ممن ظاهرهم الصلاح محرومين، فهم لم يذوقوا حلاوةَ الإيمان، ولا حقيقةِ الهداية والاستقامة.
فليست الاستقامةَ أشكالاً ومظاهرَ، بل هيَ أعمالٌ وسرائرَ، وأنتم أيضاً يا أصحاب المناصب وأهل المال والتجارة ويا كل مهندس وطبيب وكاتب أقول لكم جميعا :
أحسنتم يوم سهرتم وعملتم ونجحتم ولاشك أنكم جميعا من صناع الحياة، ومن أصحاب الأيادي البيضاء، لكن ما هو رصيدكم من السعادة والراحة وانشراح الصدر ؟
ما حقيقة الصلة بينكم وبين الله ؟
ما هو نصيبكم من حلاوةَ الإيمان، ولذةَ السجودِ والمناجاةِ، ولذةَ الدمعةِ من خشيةِ الله عزا وجلَ ؟
إذاً فقد يكونُ لكم نصيبٌ من الحرمان، فأسمعوا يا رعاكُم اللهُ هذه الكلمات.
وإذ كان هذا هو واقع بعض الصالحين والجادين العاملين فكيف بحال الغافلين اللاهين ؟
فمن الناسِ من كسب الدنيا والآخرةِ نسأل اللهَ أن نكونَ منهم.
ومنهم من كسبَ الدنيا وضيعَ الآخرةِ.
ومنهم من ضيعَ الدنيا والآخرةِ. وهؤلاء همُ المحرومينَ حقا.
يحدثني أحدهم:
أنه لم يركع لله ركعة، ولم يشعر بلذة الصيام يوما من الأيام وأنه لا يعرف عن رمضان سوى السهر والمعاكسات والنوم بالنهار.
ويهمس لي آخر :
عن أحواله وأحوال أصحابه وجلساتهم في الليل وما يدور فيها من الفساد والضياع.
وقال آخر :
أنه يجلس الساعات بل الليالي ينتقل من قناة إلى قناة لقضاء الفراغ وقتل الوقت كما يقول، ويقول عن نفسه أن الحق أنه يبحث عن الشهوة وتلبية رغبات النفس الأمارة، فإذا انتهيت شعرت بندم وهم وضيق لا يعلمه إلا الله، ولا أدري إلى متى سأظل على هذه الحال من قتل العمر وتضييع الأيام.
يقول أضعت نفسي ورجولتي وإيماني ووظيفتي وباختصار إنني أعيش بدوامة التعاسة والشقاء وإن كنت في الظاهر بسعادة وهنا… إلى آخر ما قال.
قلت في نفسي صدق الله يوم أن قال: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ).
ويصارحني آخر ودمعته تسيل على خده فيقول:
إنكم مسؤولون عنا أمام الله، أدركوا الشباب مخدرات، أفلام، معاكسات، سهر وغناء ولواط وزنى، ثم يجهش في البكاء – هذه حاله والله العظيم – ثم يجهش في البكاء ويضع وجهه بين يديه وهو يقول:
فكرت بالانتحار عددا من المرات.
وكتب إلى أحدهم رسالة طويلة قال في مقدمتها:
قضية الشباب قضية كبيرة ومهملة وللأسف، مهملة من الجميع إلا ما شاء الله، فلا أدري من أين ابدأ في مشاكلهم المعاصرة.
هل ابدأ بتضييعهم لأوقاتهم وأموالهم أو لأنفسهم أو لأمتهم، ثم عدد بعض أسرار الشباب إلى أن قال:
هذا فيض من غيض مما يدور في أوساط الشباب من الفساد والإفساد فضلا عن حلق اللحى وسماع الغناء وإسبال الثياب وتبادل الأشرطة والأفلام المدمرة وشرب الدخان ولعب الورق وتبادل أرقام الهواتف وسباب ولعان وغيبة ونميمة وكذب، ناهيك عن ترك الصلاة.
وإني بمقامي هذا –الكلام لا يزال له- بعد إذ نجاني الله من شبكة أعداء الإسلام التي ينصبونها لأبناء هذه الأمة - وليس الخبر كالمعاينة- أقول هذا واقع الشباب فأذهبوا وشاهدوا العجائب. إلى آخر رسالته.
وحدثتني بعض الأخوات :
فتبين لي العجب من الضياع والحرمان الذي تعيشه بعض بنات المسلمين وللأسف.
تقول لي إحداهن وقد كانت غافلة عابثة بالهاتف:
أنا أعيش محنة كبيرة شديدة لا يعلمها إلا الله، فأنام وأصحو وأنا أبكي، قلبي يكاد يتقطع، أحس أن الدنيا ضيقة، أبكي في كل وقت وأخاف أن يكون ذلك الإحساس بضيق الدنيا قنوطا أو يئسا من رحمة الله وأنا لا أريد ذلك، فأنا أريد أن أحقق صدق توبتي بالصبر والثقة بالله والتوكل عليه والاستعانة به والثقة بأنه سينجيني من تلك المعصية، ويغفر لي ويعوضني خيرا.
وحتى لحظة كتابتي هذه الكلمات أبكي من شدة ما أجد من ألم وتعب وضيق، لأن كل شيء يذكرني بالماضي، ولا أجد الراحة والاطمئنان إلا في الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، وهذه من الصعوبات التي تواجهني في هذه الفترة، وأسأله تعالى أن يغفر ذنوبي فقد فرطت في جنب الله وتهاونت في المعصية… إلى أن قالت:
كنت أقول في نفسي أمعقول أن يوجد من يتوب ويرجع إلى الله بسبب محاضرة واحدة أو شريط واحد أو موقف بسيط، فالحمد لله، وأساله أن لا يزيغ قلبي بعد إذ هداني.
وقد هداها الله بسبب حضورها لمحاضرة لإحدى الأخوات في كليّتها. .. إلى آخر قصتها من رسالة بعنوان دموع ساخنة من فتاة عائدة.
فأهدي هذا الموضوع (المحرومون) أهديه إلى :
المحرومين من نعمةِ الإيمان، الفاقدينَ حلاوتَه وأنسَه وطعمَه.
أهديه إلى المحرومين من لذةِ الدمعةِ والبكاءِ خشيةً وخوفاً من الله.
أهديه إلى المحرومين من لذةِ السجودِ ومناجاةِ علامِ الغيوب.
أهديهِ إلى المحرومين من لذةِ قراءةِ القرآن وتدبرِ معانيه وتذوق معانيه.
أهديهِ إلى المحرومين من لذةِ الأخوةِ والحبِ في الله.
أهديهِ إلى المحرومين من بركةِ الرزقِ وأكلِ اللقمةِ الحلال.
أهديه إلى المحرومين من بركةِ العمرِ وضياعهِ في الشهوات واللذات.
أهديه إلى المحرومين من انشراحِ الصدرِ وطمأنينته وسعادته.
أهديه إلى المحرومين من بر الوالدين والأنسِ بهما.
وجماعِ ذلك كلِه أقول:
أهدي هذا الموضوع إلى المحرومين من الاستقامةِ والطاعة والالتزام.
إلى أولئك الذينَ أصابتهم الوساوس والشكوك، واستبد بهم الأسى والشقاء، واجتاحهم القلق والظلام، ونزلت بهم الهموم والغموم.
إلى الذين حُرموا زاد الإيمان ونور الإسلام.
إلى البائسينَ ولو عاشوا بالرغدِ والنعيم الذين حُرموا نعمة الإيمان، لقد فقدتم كل شيء وإن وجدتم المال والجاه.
إلى الذين حُرموا لذة الاطمئنان وبرد الراحة، لقد فقدتم كل شيء وإن ملكتم الدنيا بأسرها.
إلى الذين حُرموا السعادة والأنسَ، وأضاعوا الطريقَ.
إلى أولئكَ جميعاً أقول اسألوا التائبين يومَ ذاقوا طعم الإيمان، يوم اعترفوا بالحقيقة.
واللهِ ثم والله ما رأيت تائباً إلا وقالها، ولا نادما إلا وأعلنها صرخاتُ متوجعٍ وزفرات مذنب وآهات نادم اختصروها بكلماتٍ قالوا:
( نشعرُ بالسعادةِ لحظات، وقت الشهوة فقط وعند الوقوع بالمعصيةِ واللذة، وبعدها قلقٌ وحيرةٌ وفزعٌ واضطرابٌ وضياع وظلام شكوكٌ وظنون، وبكاء وشكوى، عقد وأمراض نفسية).
وصدق الله عز وجل يوم أن قال :
( فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى ).
إذا فهو في أمان من الضلال والشقاء، متى ؟ بالهداية، بالاستقامة، باتباع هدي الله.
والشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقا في متاع الدنيا بأسرها، فما من متاع حرام إلا وله غصة تعقبه وضيق يتبعه، لذلك قال الله عز وجل بعد هذه الآية مباشرة:
(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ).
قال ابن كثير ( أي في الدنيا فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرجا لضلاله وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلقي وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة) انتهى كلامه رحمه الله.
فإلى المحرومين لماذا أعرضتم عن ذكر الله ؟
لماذا حرمتم أنفسكم سماع المواعظ ومجالس الذكر ؟
تُدعون فلا تأتون، وتُنصحون فلا تسمعون، تغفلون أو تتغافلون، بل ربما تسخرون وتهزئون.
ولكن أسمعوا النتيجة، أسمع للنتيجة المرة، اسمعي للنهاية التي لا بد منها:
قال الحق عز وجل:
( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) هذا في الدنيا.
أما في الآخرة (ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربي لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى ).
فنسيتها، أعرضت عنها، أغفلتها، تناسيتها، إذا فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان:
( وكذلك اليوم تنسى ).
( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ).
( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا، إنا نسيناكم ).
( نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون ).
أيها المحرومون:
لماذا نسيتم لقاء ربكم؟
لماذا هذا الإعراض العجيب؟
إنكم حرمتم أنفسكم فحُرمتم السعادة والراحة والاستقرار النفسي.
لماذا نسيتم وتناسيتم ما قدمت أيديكم ؟
لماذا غفلتم، ولماذا غفلنا عن المعاصي والذنوب ؟
أسمع لقول لحق عز وجل:
( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ).
ونسي ما قدمت يداه، أين النفس اللّوامة ؟ أين استشعار الذنب ؟ أين فطرة الخير ؟
أين القلب اللين الرقيق؟ أين الدمعة الحارة ؟
أسمعوا وعوا :
( إنا أنذرناكم عذابا قريبا، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ويقول الكافر يا ليتني كنت تراب ).
يقسم بعض التائبين أنه ما ركع لله ركعة وما سجد لله سجدة، فأي حرمان بعد هذا الحرمان ؟
أي حرمان بعد هذا الحرمان ؟
عفوك اللهم عنا….خيرُ شيء نتمنى
ربي إنا قد جهلنا…… في الذي قد كان منا
وخطينا وخطلنا….…ولهونا وأسأنا
إن يكو ربي خطأنا …ما أسأنا بك ظنا
فأنلنا الختم بالحسنى….وإنعاما ومنا
أيها المحرمون:
لا رحت للقلب ولا استقرار إلا في رحاب الله، إلا في الهداية، إلا في الاستقامة والالتزام بأوامر الله.
يتصور بعض المحرومين والمحرومات أن الراحة والسعادة في المال والمنصب والسفر إلى الخارج.
ذكرت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 21/4/1415هـ نقلا عن مذكرات زوجة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش قالت :
( أنها حاولت الانتحار أكثر من مرة، وقادة السيارة إلى الهاوية تطلب الموت، وحاولت أن تختنق لتخلص من همومها وغمومها )
ويذكر التاريخ لنا :
( أن علي أبن المأمون العباسي أبن الخليفة كان يسكن قصرا فخما وعنده الدنيا مبذولة ميسرة، فأطل ذات يوم من شرفت القصر فراء عاملا يكدح طيلة النهار، فإذا أضحى النهار توضأ وصلى ركعتين على شاطئ دجلة، فإذا اقترب الغروب ذهب إلى أهله.
فدعاه يوما من الأيام فسأله فأخبره أن له زوجة وأختين وأما يكدح لهن، وأنه لا قوت له ولا دخل إلا ما يتكسبه من السوق، وأنه يصوم كل يوم ويفطر مع الغروب على ما يحصل.
قال ابن الخليفة:
فهل تشكو من شيء ؟ قال العامل لا والحمد لله رب العالمين.
فترك ابن الخليفة القصر، وترك الإمرة وهام على وجهه ووجد ميتا بعد سنوات عديدة وكان يعمل في الخشب جهة خرسان)
فيا سبحان الله، من الإمارة إلى النجارة لأنه وجد السعادة في عمله هذا، ولم يجدها في القصر.
المحرومون من الصلاة :
إن من المحرومين من قال الله عنهم:
( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ).
فأي حرمان بعد إضاعة الصلاة، أقسم لي شاب أنه لم يسجد لله سجدة إلا مجاملة أو حياء.
فأقول أيها المحروم :
إنه الكفر والضلال،( إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر.)1
( إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة )2
مسكين أنت أيها المحروم يوم أن قطعت الصلة بينك وبين الله، إنها مفتاح الكنز الذي يفيض سعادة وطمأنينة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود، إنها زاد الطريق ومدد الروح وجلاء القلوب.
إن ركعتين بوضوء وخشوع وخضوع كفيلتان أن تنهي كل هذا الهم والغم والكدر والإحباط.
إن من أسباب سعادة المؤمنين ما أخبر الله عنه بقوله:
( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ).
وقوله ( أمّن هو قانت آنا الليل ساجدا وقائما، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ).
من أجمل لحظات الدنيا وأسعدها يوما أن يسجد العبد لمولاه، يدعوه ويناديه، يخافه ويخشاه، قيام وسجود، بكاء وخشوع فيتنور القلب وينشرح الصدر وتشرق الوجوه.
قال عز وجل ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ).
أما المحروم فظلام في القلب، وسواد في الوجه، وقلق في النفس. هذا في الدنيا.
وفي الآخرة يقول الله عنهم ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ).
حُرموا من السجود في الآخرة لأنهم كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا فيتشاغلون ويتكبرون ويسخرون.
أي فلاح وأي رجاء وأي عيش لمن انقطعت صلته بالله؟
أو قطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غناء له عنه طرفة عين؟
فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع من أنواع الآلام وأنواع العذاب.
مسكين أيها المحروم، كيف تريد التوفيق والفلاح ؟ والسعادة والنجاح ؟ وأنت لا تصلي وقد قطعت الصلة ما بينك وبين الله.
اسمع إلى قول الله عز وجل ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ).
اسمع لقول الحق عز وجل (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ).
سجود المحراب، واستغفار الأسحار ودموع لمناجاة سيماء يحتكرها المؤمنون.
ولأن توهم المحروم أن جناته في الدينار والنساء والقصر المنيف، فإن جنة المؤمن في محرابه.
إن من المحرومين من إذا ذكر بالصلاة سخر واستهزأ.
وفي هؤلاء يقول الحق عز وجل ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون).
ويقول عز وجل (إن الذين أجرموا كانوا من الذين أمنوا يضحكون وإذا مروا بهمم يتغامزون).
أي في الدنيا، ولكن السعيد من يضحك في النهاية.
ولذلك قال الله ( فاليوم الذين أمنوا من الكفار يضحكون ).
إن المتهاون في الصلاة حُرم خيرا كثيرا، فقد قال (صلى الله علية وآله وسلم):
(من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهان ولا نور ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي أبن خلف)3
أيها المحروم:
حرمت نفسك أجمل لحظات الدنيا وهي لحظات السجود وتمريغ الجبين للرب المعبود.
حرمت نفسك أعظم اللذات، لذة المناجاة، ولذة التذلل والخضوع.
إنك تملك أغلا شيئا في هذا الوجود، تملك كنزا من كنوز الدنيا:
الصلوات الخمس.
الثلث الأخير من الليل.
ساعات الاستجابة.
أسأل المصلين الصادقين ماذا وجدوا ؟
أسألهم ولا تتردد سيجيبوك بنفوس مطمئنة، بنفوس راضية، بنفوس ذاقت حلاوة الدنيا وأجمل ما فيها.
سيقولون ( أكثر الناس هموما وغموما وكدرا المتهاونون المضيعون للصلاة ).
ولكن أبشر أيها الأخ الحبيب فإن الله عز وجل يقول :
( إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا).
المحرومون من التوبة:
التائب أعتق نفسه من أسر الهوى، وأطلق قلبه من سجن المعصية.
التائب يجد للطاعة حلاوة وللعبادة راحة، وللأيمان طعما، وللإقبال لذة.
التائب يجد في قلبه حرقة، وفي وجهه أسى، وفي دمعه أسرار.
التائب منكسر القلب، غزير الدمعة، رقيق المشاعر.
التائب صادق العبارة فهو بين خوف وأمن، وقلق وسكينة.
اليوم ميلادي الجديد وما مضى…موت بليت به بليل داجِ
أنا قد سريت إلى الهداية عارجا……….يا حسن ذا الإسراء والمعراج
أيها المحروم:
أيها المحروم تب إلى الله، تب إلى الله ذق طعمَ التوبةَ، ذق حلاوةَ الدمعةَ، اعتصرَ القلبَ وتألم لتسيلَ دمعةُ على الخد تطفئُ نيران المعاصي والذنوب.
أخلوا بنفسكَ وأعترفِ بذنبك وأدعُ ربك وقل:
( اللهم أنت ربي لا إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، اعوذ بك من شر ما صنعت، أبو لك بنعمتك علي وأبو بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
أبكي على خطيئتكَ،وجرب لذةَ المناجاة، أعترف بالذل والعبودية لله.
تب إلى الله بصدق، ناجي ربك وقل: ( اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فأغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ).
جرب مثل هذه الكلمات، جربها كما كان (صلى الله علية وآله وسلم) يرددها.
أيها المحروم:
( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد (صلى الله علية وآله وسلم) رسولا )4
أسمع إلى ملكِ الملوك وهو يناديكَ أنت.
أسمع إلى جبارِ الأرضِ والسماواتِ وهو يخاطبك أنتَ، وأنت من أنت؟
أسمع للغفورِ الودود الرحيم الرحمن وهو يقول:
( قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسِهم لا تقنطوا من رحمةِ الله، إن اللهَ يغفرُ الذنوب جميعاً إنه هو الغفورُ الرحيم ).
ويقولُ سبحانه في الحديثِ القدسي:
( يا عبادي إنكم تذنبونَ في الليلِ والنهار، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعا، فاستغفروني أغفر لكم ).5
يقولُ الله في الحديثِ القدسي الآخر:
( يا ابنَ أدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرتُ لك على ما كانَ ولا أبالي، يا أبن أدم لو بلغت ذنوبَك عنانَ السماء، ثم استغفرتني غفرتُ لك على ما كان ولا أبالي، يا أبن أدم لو أتيتني بقرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئاً لقيتكَ بقراب الأرضِ مغفرةً )6
إذا فيا أيها المحروم:
ما هو عذركَ وأنت تسمعُ هذه الندائات ممن من ربِ الأرضِ والسماوات.
إن أسعد لحظات الدنيا يومَ أن تقفَ خاضعاً ذليلاً خائفاً باكيا مستغفرا باكيا، فكلماتُ التائبينَ صادقةُ، ودموعُهم حارةُ، وهممهم قوية.
ذاقواُ حلاوةَ الإيمانِ بعد مرارةِ الحرمان.
ووجدوا برد اليقينِ بعد نارِ الحيرةَ.
وعاشوا حياةِ الأمنِ بعد مسيرةِ القلقِ والاضطراب.
فلماذا تحرمُ نفسكَ هذا الخير وهذه اللذة والسعادة ؟
فإن أذنبتَ فتب، وإن أسأت فأستغفر، وإن أخطأت فأصلح فالرحمةُ واسعةٌ والبابُ مفتوح.
قال أبن القيم في الفوائد :
( ويحك لا تحقر نفسك، فالتائب حبيب، والمنكسر صحيح، إقرارك بالإفلاس عين الغناء، تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة، اعترافك بالخطاء نفس الإصابة ) انتهى كلامه رحمه الله.
إذا العبودية لله عزة ورفعة ولغيره ذل ومهانة.
أيها الحبيب، أيتها الغالية:
إنا لنفرح بتوبتك، ونسر لرجوعك إلى الله، وليس لنا من الأمر شيء.
عين تسر إذا رأتك وأختها…..تبكي لطول تباعد وفراقِ
فاحفظ لواحدة دوام سرورها….وعد التي أبكيتها بتلاقي
عدنا بالرجوع إلى الله، عدنا بتوبة صادقة ونحن معك بكل ما تريد، نسر ونفرح نمدك بأموالنا وأيدينا ودعائنا وليس لنا من الأمر شيء، إنما هو لنفسك.
ومن المحرومين من حُرم لذة قراءة القرآن:
وتدبر آياته والبكاء من خشية الله، عن عطاء قال :
دخلت أنا وعبيد ابن عميرعلى عائشة رضي الله عنها فقال عبيد لها حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم)، فبكت وقالت:
(قام ليلة من الليالي فقال يا عائشة ذريني أتعبد لربي قالت قلت،والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت قام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يأذن لصلاة الفجر، فلما راءه يبكي قال:
( يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر )
فقال (صلى الله علية وآله وسلم) (أفلا أكون عبدا شكورا ، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرائها ولم يتفكر فيها)
ثم تلا (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ….خر سورة آل عمران).7
إذا فمن المحرومين من لم يقرأ القرآن، وربما قرأه في رمضان بدون تدبر أو خشوع.
أسال نفسك أيها المحب كم آية تقرأ في اليوم ؟ بل كم مرة تقرأ في الأسبوع؟
كم مرة دمعة عيناك وأنت تقرا القرآن ؟
إن من الناس من لم تدمع عينه مرة واحدة، مرة واحدة عند سماع أو قراءة آيات القرآن، وربما دمعت مرارا ومدرارا عند سماع كلمات الغناء في الحب والغرام والهجر والجرام. والعياذ بالله.
مساكين الذين ظنوا الحياة كأسا ونغمة ووترا.
مساكين الذين جعلوا وقتهم لهوا ولعبا وغرورا.
مساكين الذين حسبوا السعادة أكلا وشربا ولذة.
ليل المحرومين غناء وبكاء، وليل الصالحين بكاء ودعاء.
ليل المحرومين مجون وخنوع، وليل الصالحين ذكر ودموع.
أيها المحروم:
أيها المحروم من لذة البكاء أعلم أنه متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله فأعلم أن قحطها من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي. والعياذ بالله.
فقل أيها المحروم:
قل لنفسك و أسفاه، و حسرتاه كيف ينقضي الزمان وينفذ العمر والقلب محجوب محروم ما شم رائحة القرآن، دخل الدنيا وخرج وما ذاق أطيب ما فيها.
بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزا وكسلا، وموته غبنا وكمدا.
ألم تسمع أيها المحروم ؟
ألم تسمعي أيتها المحرومة لقول النبي (صلى الله علية وآله وسلم) :
( والقرآن حجة لك أو عليك ). فأيهما تختار وأيهما تختارين ؟ لك أم عليك.
قال أحد الصالحين:
أحسست بغم لا يعلمه إلا الله، وبهم مقيم فأخذت المصحف وبقيت أتلو فزال عني – والله – فجأة هذا الغم، وأبدلني الله سرورا وحبورا مكان ذلك الكدر.
يا أيها الأخ الحبيب، يا أيتها المسلمة:
إن هذا لقرآن رحمة وهو هدى ونور وشفاء لما في الصدور كما وصفه الله سبحانه وتعالى، فأسمع أيها المحروم من قراءة القرآن إن قراءة القرآن بتدبر وتمعن من أعظم أسباب السعادة، ومن اعظم أسباب انشراح الصدر في الدنيا والآخرة.
ومن المحرومين من حُرم لذة الأخّوة في الله:
حُرم الرفقة الصالحة التي تذكره الخير وتعينه عليه، إن الجليس الصالح لا تسمع منه إلا كلاما طيبا، أو دعاء صالحا أو دفاعا عن عرضك.
فيا أيها المحروم من لأخّوة في الله إنك بأمس الحاجة إلى دعوة صالحة إلى كلمة طيبة.
إنك بأمس الحاجة إلى من تبث له أشجانك.
إنك بأمس الحاجة إلى صادق أمين وناصح مخلص.
إنك بأمس الحاجة إلى أخ يتصف بالرجولة والشهامة.
أتُراك تجد هذه الصفات بصديق الجلسات والضحكات والرحلات والمنكرات. ؟
أيها المحب أعد النظر في صداقاتك، استعرض أصدقائك واحد بعد الآخر، أسال نفسك ما نوع الرابط بينكما؟ أهي المصالح الدنيوية ؟ أم هي الشهوات الشيطانية ؟ أم هي الأخّوة الإسلامية ؟
كلُ اخّوة لغير الله هباء، وفي النهاية هم وعداء.
لاشك مر بك قول الحق عز وجل: ( الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ).
أيها المحروم من لذة الأخّوة في الله، راجع صداقاتك قبل أن تقول يوم القيامة:
(يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا).
راجع أحبابك وخلانك، فإنك ستحشر معهم يوم القيامة فقد قال حبيبك (صلى الله علية وآله وسلم):
( المرء مع من أحب ).
فمن أي الفريقين أحبابك ؟
قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها……فأنت قرين لي بكل مكان
فإن كنت في دار الشقاء فإنني………...وأنت جميعا في شقاء وهوان
أيها المحروم:
كم كسبت من صفات ذميمة ؟ وكم خسرت من صفات حميدة ؟ بسبب أصحابك.
تقول لي لماذا ؟ أقول لك لأن الطبع سرّاق، وقل لي من تصاحب أقول لك من أنت.
والنبي (صلى الله علية وآله وسلم) يقول ( الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).
أُبل الرجال إذا أردت إخائهم……وتوسمن أمورهم وتفقد
فإذا وجدت أخ الأمانة والتقى….فبه اليدين قرين عين فأشدد
إن للأخّوة في الله حلاوة عجيبة ولذة غريبة، لا يشعر بها إلا من وجدها.
وفي الصحيح أن النبي (صلى الله علية وآله وسلم) قال:
(ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، وذكر منها وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ).
وفي الأثر المشهور:
(لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا ومنها مجالسة أخوة ينتقون أطايب الكلام كما ينتقون أطايب التمر ).
فكم من محروم حُرم الأخّوة في الله ؟
ومن الناس من حرُم أكل الحلال:
ومن ثم حٌرم إجابة الدعاء، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قالَ قال رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم):
( أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إن بما تعملون عليم، وقال : يا أيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنا يستجاب لذلك).
كم من الناس حُرموا لذة الأكلة الحلال، وحُرموا بركة المال، وحُرموا صلاح العيال بسبب أكل الحرام من ربا وغشي وخداع وسرقة وحلف كاذب.
مسكين أنت أيها المحروم فربما أنك تركع وتسجد وترفع يديك بالدعاء فأنا يستجاب لك.
أيها الأخوة، أخشى أن نكون من المحرومين ونحن لا نشعر، فنحن نرفع أيدينا بالدعاء، ونلح على الله فيه، وربما سالت الدمعات على الخدين.
أنظر لحال المصلين ودعاء القنوت في رمضان، فربما لا نراء أثرا لدعائنا وبكائنا:
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).
( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ).
لنراقب أموالنا، ولنحرص على أكلنا وشربنا ولبسنا، وربما دُخلنا من إهمالنا في أعمالنا ووظائفنا.
فيا أيها المحروم:
إن لأكل الحلال أثرا عجيبا على القلب وراحته وسعادته.
إن لأكل الحلال أثرا كبيرا على صلاح الأولاد وبرهم بإبائهم.
بل إن لأكل الحلال أثرا كبيرا على سعة الرزق ونماء المال.
فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب ؟
ففي المسند من حديث ثوبان قالَ قال رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم):
( إن الرجل ليحُرم الرزق بالذنب يصيبه )8
فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب ؟
أنتبه أيها المحب، فليس كثرة المال عند بعض الناس دليلا على بركته، بل قد يكون شقاء على صاحبه، وكم سمعنا عن من ملك المال والقصور يعيش في تعاسة وهموم، وقد قال (صلى الله علية وآله وسلم) :
( إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا قول الله عز وجل: فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)9
وأسمع لأبن القيم رحمه الله وهو يقول عن أثر الذنوب والمعاصي:
( ومن عقوبتها – أي المعاصي والذنوب – أنها تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم وبركة العمل، وبركة الطاعة وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا، فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله، وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق، قال تعالى: ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض. وقال تعالى :وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه. وإن العبد ليحُرم الرزق بالذنب يصيبه) انتهى كلامه رحمه الله.
ومن الناس من حُرم كثرة ذكر الله:
تهليلا وتسبيحا وتحميدا وتكبيرا فلسانه يابسا من ذكر الله، رطب ببذيء برديء الكلام والسباب واللعان - والعياذ بالله – وإذ أردت أن تعرف شدة الحرمان والخسارة للغافل عن كر الله فأسمع لهذه الآيات، وأسمع لهذه الأحاديث والربح العظيم فيها:
عن أي هريرة رضي الله عنه قال ( أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) فقالوا: ذهب أهل الدثور (أي أهل المال الكثير) بالدرجات العلا والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال ، يحجون ويعتمرون ويتصدقون)
فقال (صلى الله علية وآله وسلم) ( ألا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ قالوا بلى يا رسول الله.)
قال ( تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين).
قال أبو صالح الراوي عن أي هريرة لما سأل عن كيفية ذكرهن قال:
يقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثين.10
وزاد مسلم في روايته ( فرجع فقراء الهاجرين إلى رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال (صلى الله علية وآله وسلم): ذلك فضل الله يأتيه من يشاء).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) قال:
( من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر).11
وعن سعد أبن أبي وقاص رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) فقال:
( أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلساءه كيف يكسب ألف حسنة ؟ فقال (صلى الله علية وآله وسلم) يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة).12
والأحاديث في مثل هذه الفضائل كثيرة جدا ومستفيضة.
أسألك بالله أليس محروما من ترك مثل هذه الأذكار ؟
فمن منا لا يرغبُ أن تُغفرَ خطاياهُ وإن كانت مثل زبدِ البحر؟
ومن منا لا يرغبُ أن يكسبَ آلف حسنةٍ أو يحط عنه ألفُ خطيئةٍ؟
ولكن بعض الناسِ لم يسمع بهذه الأحاديثِ قط فضلا على أن يحرص على فضلها ؟
أليسَ هذا من الحرمان ؟
إنها كلماتٌ قصيرة في أوقاتٍ يسيرة مقابل فضائل كثيرة وهي سلاحٌ للمؤمنِ تحفظُه من شياطينِ الإنسِ والجان، وهيَ اطمئنان للقلب وانشراحٌ للصدرِ كما قال عز وجل :
( ألا بذكرِ اللهِ تطمئنُ القلوب ).
والله عز وجل يقول ( والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجر عظيما).
ولكن سبق المفردون، وتأخر وخسر المحرومون. المفردون هم الذاكرون الله كثيرا والذاكرات كما أخبر بذلك (صلى الله علية وآله وسلم) عند مسلم في صحيح.
فيا أيها المحرومُ من ذكرِ الله، أحرص على تلك الأذكار، لعلها أن تمحُ عنك السيئات، وإياكَ إياك وبذاءة اللسان، والسبَ وللعان فتزيدَ الطين بلة.
ومن الناس من حُرم السعادة الزوجية:
حُرم السعادةَ الزوجيةَ والعيشةَ الهنيئةَ، فهوَ لا يجدُ السكن النفسي، يعيشَ في قلقٍ واضطرابٍ، وشجارٍ وخصام، كم شكا هؤلاء لنا ؟ كم شكوا حياتِهم مع أزواجِهم وفي بيوتِهم ؟
يعيشُ بدونا مودةٍ ولا رحمةٍ، بدون لذة ولا متعةٍ، وبينَه وبين زوجِه وحشةً فلما كلُ ذلك ؟
قال بعضُ السلف - اسمع يا رعاك الله - قال بعضُ السلف :
( إني لأعصِ الله فأرى ذلكَ في خلقي دابتي وزوجتي).
أيها الزوجان:
ربما تحُرم السعادة الزوجية والراحة النفسيةَ بسبب الذنوبِ والمعاصي منكما أو من أحدكما.
انظرا إلى البيت وما فيه من وسائل فساد تغضب رب العباد.
انظرا إلى حرصكما على الفرائض والطاعات والاهتمام بها والصلاة في أوقاتها.
قفا مع بعضكما وستجدان أن السبب معصية الله لا شك.
قال الله تعالى : (وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير).
إنه ما من مشكلةٍ تقعُ بين زوجين إلا بمعصية أو ذنبٍ، فكم في البيوتِ من المحرومين بسبب معصيةِ ربِ العالمين ؟ وأقف هنا فقد سبق الحديث عن هذا الموضوع بدرسين بعنوان (السحر الحلال).
ومن الناس من حُرم بر الوالدين:
من المحرومين من حُرم برَ الوالدين والأنسُ بهما، والجلوسُ معهما وقضاء حوائجِهما، حُرم المسكينُ من فضلِ عبادةٍ قرنت بتوحيدِ الله عز وجل.
فقد ثنى بهما فقال: ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا ).
ويدل هذا على فضلهما وعظم القيام بهما، وأسمع يا من حُرمت برهما قال (صلى الله علية وآله وسلم):
( الوالدُ أوسطُ أبوابُ الجنةَ، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه)13
ويروى عن عبد اللهِ أبنُ المبارك أنه بكى لما ماتت أمهُ فقيل له فقال:
( إني لأعلمُ أن الموتَ حق، ولكن كان لي بابانِ للجنةِ مفتوحان فأغلقَ أحدُهما).
والنبيُ (صلى الله علية وآله وسلم) يقول :
( رغمَ أنفُ، ثم رغمَ أنفُ، ثم رغمَ أنفُ من أدركَ أبويه عند الكبرِ أحدُهما أوكلاهما فلم يدخل الجنة ).14
وقال (صلى الله علية وآله وسلم) (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه)15
ومن برهما ميتين الدعاء لهما وزيارة صديقهما وإنفاذ وعدهما.
إن قصص العقوق التي نسمعها لينفطر لها الفؤاد أسى، وتذوب لها النفس حسرة.
أيها المحروم برهما إن العقوق من الكبائر، بل لا يدخل الجنة عاق، ويحُرم التوفيق في الدنيا، وربما عُجلت له العقوبة، وربما ابتلي بأولاده فالجزاء من جنس العمل.
أبو هريرةَ كان لا يخرج ولا يدخل حتى يسلم على أمة وكان يحملها وينزلها فقد كانت كبيرة مكفوفة.
وابنُ الحنفيةَ يغسلُ رأسَ أمهُ ويمشُطُها ويقبلُها ويخدمُها.
وكان علي أبنُ الحسين من أبرِ الناسِ بأمه، فكان لا يأكلُ معها فسأل فقال:
( أخاف أن تسبقَ عينُها إلى شيءٍ من الطعامِ وأنا لا أعلم به فأكلُه فأكونُ قد عققتُها).
وطلبت أم مسعرٍ من ابنها ماءً في ليلةً، فجاء به إليها فوجدها نائمةً.
فوقف على رأسِها حتى الصباح.
وسألَ عمرُ أبنُ ذرٍ عن برِ ولده به فقال:
ما مشى معيَ نهاراً قط إلا كان خلفي، ولا ليلاً قط إلا كان أمامي، ولا رقى على سطح ٍ أنا تحَته.
فنستغفرَ اللهَ حالِنا مع آبائِنا، ونعوذ بالله من الحرمان.
إليك أيها السامع هذه العناوين السريعة:
أنقلها لك من رسالة صغيرة بعنوان (أبناء يعذبون أبناءهم قصص واقعيه).
أبن يتهرب من المستشفى حتى لا يتسلم والده.
آخر يتخلص من أمه فيرميها بجوار القمامة.
آخر يأتي بأبيه الذي بلغ الثمانين إلى دار النقاهة ويقول خذوا أبي عندكم وإذا أردتم شيئا اصلوا علي.
وآخر يبخل على أمه بمائة ريال ثمنا لخاتم أعجبها، بل أخذ الخاتم ورماه على طاولة البائع.
وابنة تطرد والدة من منزلها.
وأخرى غضبت لأنها علمت أن والدتها ستعيش معها.
هذه عناوين لقصص واقعية، وتفاصيلها تدمي القلوب وتقرح الأكباد. فإن لله وإنا إليه راجعون.
نعوذ بالله من حال هؤلاء. محرومون ومعذبون في الدنيا والآخرة.
اللهم اغفر لنا ولوادينا وأجزهم عنا خير الجزاء.
اللهم أعنا على برهما، اللهم ارفع درجتَهم وأسكنَهم الفردوس الأعلى برحمتك يا أرحم الراحمين.
ومن الناس من حُرم حسن الخاتمة:
نسأل الله حسنها، عجيبٌ حالك أيها المحروم، إنك تعلمُ أن الموتَ حقٌ، وأنه نهايةُ الجميعِ، مع ذلك تصرُ على حالِكَ وأنت تسمعُ هذه الكلماتُ مراراً وتكرارا.
أيها الأخُ، أيتها الأخت، ليسَ العيبُ أن نخطأ، ولكن العيبَ الاستمرار على الخطأ.
أيهما تريدُ أن تموتَ على خيرٍ أو على شر؟
أقولُ هذا لأننا نرى ونسمعُ نهايةُ بعضِ المحرومين، نسأل الله حسن الخاتمة.
قال أبنُ القيم في الجواب الكافي :
( ثم أمرُ أخوفُ من ذلك وأدهى وأمر، وهوَ أن يخونَه قلبَه ولسانَه عند الاحتضارِ، والانتقال إلى الله تعالى فربما تعذرُ عليه النطق بالشهادةِ كما شاهد الناس كثيرا من المحتضرين مما أصابهم ذلك.. إلى قوله وسبحان الله، كم شاهد الناس من هذا عبرا، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم ).
ثم ذكر رحمه الله اليوم صورا لبعضهم منها :
قيل لبعضهم قل لا إله إلا الله فأخذ يهذي بالغناء.
وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فقال كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها.
ونحن اليوم نشاهد ونسمع ونقرأ صورا كثيرة لسوء الخاتمة منها:
أن رجلا ذهب إلى أحد البلاد المعروفة بالفساد، وهناك في شقته شرب الخمر أعزكم الله، قارورة ثم الثانية ثم الثالثة، هكذا حتى شعر بالغثيان، فذهب إلى دورة المياه ليتقيأ.
أتدري أيها المحب ماذا حدث له؟
مات في دورة المياه، ورأسه في المرحاض أعزكم الله.
ومنها أن شابا كان لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، وكان لا يصلي أضاع طريق الهداية، وعندما نزلت به سكرات الموت قيل له قل لا إله إلا الله، يا لها من لحظات حرجة، كربات وشدائد وأهوال.
أتدرون ماذا قال: أخذ يردد أنه كافر بها. نسأل الله حسن الخاتمة.
ومنها أن شابا حصل له حادث على إحدى الطرق السريعة.
فتوقف بعض المارة لإسعافه فوجدوه يحتضر والموسيقى الغربية تنبعث بقوة من مسجل السيارة.
فأطفئوه وقالوا له قل لا إله إلا الله، فأخذ يسب الدين ويقول لا أريد أن أصلي، لا أريد أن أصوم ومات على ذلك والعياذ بالله.
يقول أحد العاملين في مراقبة الطرق السريعة، فجأة سمعنا صوت ارتطام قوي.
فإذا سيارة مرتطمة بسيارة أخرى، حادث لا يكاد يوصف، شخصان في السيارة في حالة خطيرة.
أخرجناهما ووضعناهما ممددين، وأسرعنا لإخراج صاحب السيارة الأخرى فوجدناه قد فارق الحياة.
عدنا للشخصين فإذا هم في حالة الاحتضار، هب زميلي يلقنهما الشهادة، لكنا اللسنتهما ارتفعت بالغناء، أرهبني الموقف، وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت.
أخذ يعيد عليهما الشهادتان وهما مستمران في الغناء، لا فائدة.
ثم بدأ صوت الغناء يخفت شيئا فشيئا، سكت الأول وتبعه الثاني. فقدوا الحياة لا حراك.
يقول لم أرى في حياتي موقفا كهذا، حملناهما في السيارة وقال زميلي إن الإنسان يختم له إما بخير أو بشر بحسب ظاهره وباطنه.
قال فخفت من الموت، وأتعضت من الحادثه، وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة.
قال وبعد مدة حصل حادث عجيب.
شخص يسير بسيارته سيرا عاديا، وتعطلت سيارته في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة.
ترجل عن سيارته لإصلاح العطل في أحد العجلات.
جاءت سيارة مسرعة فارتطمت بسيارته من الخلف، سقط مصابا إصابات بالغة فحملناه معنا في السيارة.
أتصلنا في المستشفى لاستقباله، شاب متدين في مقتبل العمر يبدو ذلك من مظهره.
عندما حملناه سمعناه يهمهم فلم نميز ما يقول، ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا سمعنا صوتا مميزا.
إنه يقرأ القرآن وبصوت ندي، سبحان الله، لا تقول هذا مصاب.
الدم قد غطى ثيابه وتكسرت عظامه، بل هو على ما يبدو على مشارف الموت.
أستمر يقرأ بصوت جميل، يرتل القرآن، فجأة سكت.
التفت إلى الخلف فإذا به رافعا إصبع السبابة يتشهد ثم انحنى رأسه.
قفزت إلى الخلف، لمست يده، قلبه أنفاسه لاشيء، فارق الحياة.
نظرت إليه طويلا، سقطت دمعة من عيني، أخبرت زميلي أنه قد مات.
أنطلق زميلي في البكاء، أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف.
أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثرا.
وصلنا إلى المستشفى، وأخبرنا كل من قابلنا عن قصته.
الكثير تأثروا، ذرفت دموعهم، أحدهم بعد أن سمع قصته ذهب وقبل جبينه.
الجميع أصروا على الجلوس حتى يصلى عليه.
أتصل أحد الموظفين بمنزل المتوفى، كان المتحدث أخوه الذي قال عنه:
أنه يذهب كل أثنين لزيارة جدته التي في القرية، كان يتفقد الأرامل واليتامى والمساكين.
كانت تلك القرية تعرفه، فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة، وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين، حتى حلوى الأطفال كان لا ينساها.
وكان يرد على من يثنيه عن السفر، ويذكر له طول لطريق، كان يرد عليه بقوله إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته، وسماع الأشرطة النافعة، وإنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطوها.
يقول ذلك العامل في مراقبة الطريق:
كني أعيش مرحلة متلاطمة الأمواج تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه بكثرة فراغي وقلة معارفي، وكنت بعيدا عن الله، فلما صلينا على الشاب، ودفناه واستقبل أول أيام الآخرة، استقبلت أول أيام الدنيا، تبت إلى الله عسى أن يعفو الله عما سلف، وأن يثبتني على طاعته، وأن يختم لي بخير. انتهت القصة بتصرف من رسالة لطيفة بعنوان الزمن القادم.
قلت صدق ابن القيم لرحمه الله بقوله ( وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا، -أي من سوء الخاتمة- والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم).
أقولُ كيف يوفقُ لحسنِ الخاتمةِ من حُرم نفسَه الاستقامةَ والطاعةَ لله، فقلبُه بعيدٌ عن الله غافلٌ عنه، عبدٌ لشهوتِه وهواه، اللهم اجعل خير أعمالِنا خواتيمها، وتب علينا إن أنت التواب الرحيم.
وهذا موقف آخر، قال أبو عبد الله:
لا أعرف كيف أروي قصتي التي عشتها قبل فترة والتي غيرت مجرى حياتي كلها، والحقيقة أنني لم أقرر الكشف عنها إلا من خلال إحساسي بالمسؤولية اتجاه الله عز وجل، ولتحذير بعض الشباب الذي يعصي ربه، وبعض الفتيات الآتي يسعين وراء وهم زائف أسمه الحب، يقول:
كنا ثلاثة من الأصدقاء يجمع بيننا الطيش والعبث، كلا بل أربعة فقد كان الشيطان رابعنا، فكنا نذهب لاصطياد الفتيات الساذجات بالكلام المعسول ونستدرجهن إلى المزارع البعيدة، وهناك يفاجئنا بأننا قد تحولنا إلى ذئاب لا ترحم، لا نرحم توسلاتهن بعد أن ماتت قلوبنا ومات فيها الإحساس.
هكذا كانت أيامنا وليالينا في المزارع وفي المخيمات والسيارات وعلى الشاطئ.
إلى أن جاء اليوم الذي لن أنساه، ذهبنا كالمعتاد للمزرعة، كان كل شيء جاهز الفريسة لكل واحد منا، الشراب الملعون، شيء واحد نسيناه الطعام.
وبعد قليل ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته، كانت الساعة السادسة تقريبا عندما أنطلق.
ومرت الساعات دون أن يعود، وفي العاشرة شعرت بالقلق عليه.
فانطلقت بسيارتي أبحث عنه، وفي الطريق شاهدت بعض اللسنة النار تندلع على جانب الطريق، وعندما وصلت فوجئت بأنها سيارة صديقي، والنار تلتهمها وهي مقلوبة على حد جانبيها.
يقول أسرعت كالمجنون أحاول إخراجه من السيارة المشتعلة، وذهلت عندما وجدت نصف جسده قد تفحم تماما، لكنه كان ما يزال على قيد الحياة.
فنقلته إلى الأرض وبعدد دقيقة فتح عينيه وأخذ يهذي النار النار.
فقررت أن أحمله بسيارتي وأسرع إلى المستشفى.
لكنه قال لي بصوت باكي لا فائدة لن اصل، فخنقتني الدموع وأنا أرى صديقي يموت أمامي.
وفوجئت به يصرخ ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟
نظرت إليه بدهشة وسألته من هو ؟
قال بصوت كأنه قادم من بئر عميق، الله.
أحسست بالرعب يجتاح جسدي ومشاعري وفجأة أطلق صديقي صرخة مدوية ليلفظ أنفاسه الأخيرة.
ومضت الأيام لكنا صورة صديقي الراحل وهو يصرخ والنار تلتهمه: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له ؟
وجدت نفسي أتسأل وأنا ماذا سأقول له ؟
وليتساءل كل محروم ماذا سيقول لله ؟
يقول ففاضت عيناي واعترتني رعشة غريبة، وفي نفس اللحظة سمعت المؤذن لصلاة الفجر ينادي:
الله أكبر، الله أكبر حيا على الصلاة.
أحسست أنه نداء خاص بي يدعوني لأسدل الستار على فترة مظلمة من حياتي، يدعوني إلى طريق النور والهداية، فاغتسلت وتوضأت وطهرت جسدي من الرذيلة التي غرقت فيها لسنوات.
أديت الصلاة ومن يومها لم يفوتني فرض واحد. انتهت من رسالة لطيفة بعنوان (للشباب فقط).
ولعلَ الكثيرين من المحرومين يتساءلونَ أين الطريقَ وما هو العلاج ؟
وأقولُ العلاجُ ما قالهُ النبي (صلى الله علية وآله وسلم) لسفيانُ أبنُ عبد الله حينما قال يا رسولَ الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنُه أحداً غيرَك؟
فقال له الرسولُ (صلى الله علية وآله وسلم) ( قل آمنتُ بالله ثم أستقم ).
فيا أيها المحروم ويا أيتها المحرومة:
لنقل كما قال (صلى الله علية وآله وسلم) آمنا بالله ثم لنستقم على طاعة الله ونؤديَ طلب الله عز وجل منا.
لزوم الصراط المستقيم من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة.
يظن بعض السامعين لهذا الكلام أن الاستقامةَ نفلٌ فمن أرادها كان مستقيماً ومن لم ير فلا بأس عليه.
وهذا مفهومُ خاطئ، فإن كلَ مسلمٍ مطالبُ بالاستقامةِ، قال تعالى:
( فأستقم كما أمرت ومن تاب معك ).
وثمرات الاستقامةِ ثمرا ت عظيمةٌ تدفع صاحبَها إليها إلى الالتزام بشرع الله ومجاهدة النفس.
يقول الحق عز وجل ( إن الذين قالوا ربُنا اللهُ ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا، وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أوليائكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نزلا من غفور رحيم ).
ويقول عز وجل ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه، ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ).
كم من المحرومين المعذبين ؟ كم من المعذبات المحرومات ؟
من شبابنا ورجالنا وإخواننا وأخواتنا نسأل الله لهم الهداية.
لقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف حتى استقاموا على الطريقة ففتحت لهم الأرض التي يغدقون فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق.
ثم حادوا عن الطريقة فسلبت منهم خيراتها استلابا.
والله يقول (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ).
وكلُ ما سبق أيها الحبيبُ من صورِ الحرمان إنما هو بسبب البعدُ عن الاستقامةِ، وينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله.
أخي الحبيب، أيتها الأخت الغالية، قف مع نفسِك لحظاتٍ بعيداً عن الدنيا بذهبها ومناصبِها وقصورِها اجلس مع نفسكَ بعيداً عن الأصحابِ والأولاد.
أخلو بنفسك وأسألها لماذا أعيشُ ؟ وماذا أريد ؟ وما هيَ النهاية ؟
من أين أتيت ؟ وإلى أين سأذهب ؟
ولكن إياك أن تكون كذلك البائس المحروم، الشاعر النصراني الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمضيت
وسأبقى سائرا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي ؟
لست أدري لست أدري.
إلى أخر تلك الطلاسم والأسئلة التي يثيرها في قصيدته ( حيرة وتردد).
ذهولا يشعر به المحرومون من نعمة الإيمان، أما نحن المسلمون المؤمنون فلا تقلقنا هذه الأسئلة ولله الحمد والمنة، فإننا نجد في ديننا الإجابة المفصلة عليه.
إننا نجد في قرءأننا وفي أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام الكلام الشافي الصادق عنها.
إن قرءأننا علمنا أننا نعيش لغاية وهدف:
( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون). فهل أنت تعيش لهدف أيها الأخ الحبيب ؟
وعلمنا أن كل شيء في حياتنا إنما هو لله:
( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له) فهل كل شيء في حياتك لله ؟
فلا تعملُ إلا ما يرضي الله، ولا نتكلمُ إلا بما يرضي الله، فلا نرضي إلا الله ولو سخطَ الناسُ كلُهم.
فنحن نردد كل لحظه : لا إله إلا الله.
ونعلم أن من عاش عليها صادقا مخلصا عاش عزيزا سعيدا.
وأن من مات عليها صادقا مخلصا مات شهيدا في جنة عرضها السماوات والأرض.
إذا فاسمع وأعلم أيها المحروم:
إن من يعيش لهدف ومبدأ يتحرك ويعمل ويركع ويسجد ويذهب ويجيء ويحرص على وقته، ولا يجعل دقيقة للفراغ، فإن الفراغ قاتل والعطالة قاتلة، وأكثر الناس هموما وغموما العاطلون الفارغون، إنك يوم تفرغ يدخل عليك الهم والغم والوساوس والهواجس، وتصبح ميدانا لألاعيب الشياطين.
أيها الأخ ويا أيتها الأخت:
أجعلِ الهم هما واحدا هم الآخرةِ، هم لقاء الله عز وجل، هم الوقوفِ بين يديه:
( يومئذٍ تعرضونَ لا تخفى منكم خافية ).
أجعل عملَك خالصاً لوجه الله، احرص على رضاء الله، لا تنتظرَ شكراً من أحد.
أيها الأخ ويا أيتها الأخت:
ماذا قدمتَ لنفسك، ومذا قدمتي لنفسكي ؟ والله يقول:
( وقدموا لأنفسكم واتقوا الله وأعلما أنكم ملاقوه )
إن من ركبَ ظهرَ التفريطَ والتواني نزلَ به في دار العسرةِ والندامةِ.
إذاً فأولُ العلاجٌ التفكير الجاد بطريق الاستقامة والالتزام، فكن صاحبَ هدفٍ، وكن صاحبَ مبدأ لتشعر بقيمة الحياة، وأجعل همكَ دائماً رضاء الله وحده لا رضاء غيره، وطاعةَ الله لا طاعةَ غيره.
ومن العلاج وأسباب الاستقامة:
إرادة الله الهداية للعبد قال تعالى: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ).
وبعض الجهال والجاهلات يقولون: ماذا أفعل إذا لم يرد الله هدايتي؟
وأقول هذه شبهة نفسية ومدخل شيطاني لدى كثير من المحرومين، ولإجابة على هذا نقول:
لا بد من فعل الأسباب فأطلب الهداية، واسعي لفعل أسبابها وجاهد النفس، وسترى إن شاء الله النتائج، وهكذا كل أمر تريده لا بد معه من فعل الأسباب.
أتراك أيها المحروم إذا طلبت النجاح في الامتحان تدرس وتقرأ وتحفظ وتسهر، لو قلنا لك مثلا لا تدر ولا تقرأ ولا تسهر وإن كان الله أراد نجاحك فستنجح، أتوافق على هذا ؟ أتوافقين على هذا ؟
بالطبع لا، إذا لا بد من فعل الأسباب من ترك جلساء السوء، وترك وسائل الفساد والحرص على مجالس الصالحين وكثرة الذكر، والإلحاح بالدعاء بأن يفتح الله على قلبك، وأن يثبتك على طريق الحق.
إن رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) كان يكثر في سجوده من قول:
(اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، فكيف بي وبك وبمن شابهنا من ضعاف الإيمان.
أدعو الله بصدق وبإلحاح أن يرزقك طريق الإستقامة.
وها أنت تدعو في اليوم أكثر من سبعة عشر مرة، إن كنت ممن يحافظ على الصلوات المفروضة تقول (اهدنا الصراط المستقيم )، ولكن مع الأسف بدون حضور قلب وبدون تدبر للمعنى.
فأصدق مع الله بطلب الهداية، وجاهد النفس فإن الله عز وجل يقول:
( واللذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
إذا فقبل مرحلةِ الهدايةَ لا بدَ من مرحلةِ المجاهدةِ وحبس النفس عن شهواتها، تذكر حلاوةِ الصلة بينك وبين الله يهن عليك مر المجاهدةِ، اعلم إن شرابَ الهوى حلو ولكنه يورث الشرق.
فاطلب الهداية من الله بصدق، واحرص على فعل أسبابها لعلك أن تشعر بالسعادة والراحة في الدنيا والآخرة.
وأسباب الهداية كثيرة لعلي ألخصها لك بالنقاط التالية، واحرص على فعلها:
- كن صاحب هدف وعش لمبدأ واعلم لماذا خُلقت.
- اعلم أن إرادة الله فوق كل شيء، لكنها في علم الغيب، فما عليك إلا أن تحرص على الخير وفعل الأسباب للوصول إليه، مع التنبه لحيل النفس ومداخل الشيطان.
- الإلحاح الشديد في الدعاء وكثرة ذكر الله.
- الحرص على مصاحبة الصالحين ونبذ أهل الفسق والفجور، فإنهم لا يهدئون حتى تكون مثلهم.
- مجاهدة النفس ومحاسبتها وهل أنت مستعد للموت أم لا.
- أتبع السيئة الحسنة تمحوها، وكل ما وقعت بذنب أو معصية أكثر من فعل الخيرات، تصدق وأطعم المساكين، صلي ركعتين، أحسن إلى الوالدين، أحرص على كل خير، فإن الله عز وجل يقول:
( إن الحسنات يذهبن السيئات ). والرسول (صلى الله علية وآله وسلم) يقول:
( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ).
- تب كل ما وقعتَ في ذنب أو معصية، وإياك، إياك من المللَ من التوبةِ ولو تبت من الذنبِ الواحدِ آلف مرةٍ، وأحذر من ضعف النفس وحيل الشيطان، فربما يحدُثك الشيطان أنك منافقٌ أو مخادعٌ لله بكثرةِ توباتك، والمهم أن تكون صادقا في التوبة والندم والإقلاع، وكلما رجعت للذنبِ بضعفٍ النفس أرجع للتوبة. قال الإمام النووي ( باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت التوبة).
وأنصحك بقراءة كتاب التوبة في صحيح مسلم لترى الأحاديث في عظم رحمة الله وفرحته بتوبة عبده، وهو غني عني وعنك وعن العالمين جميعا.
لكن إياك إياكَ والاغترار بسعة رحمة الله مع الإصرار على المعاصي، واعلم أن الله شديد العقاب كما أنه غفور رحيم.
والخلاصة أكثر من الاستغفار والتوبة، واعلم أن خير البشر حبيبنا وقدوتنا (صلى الله علية وآله وسلم) صح عنه أنه كان يستغفر الله في اليوم سبعين مرة، وفي رواية مائة مرة.
فكيف بي وبك أيها الحبيب على كثرة ذنوبنا وضعف نفوسنا.
فيا أيها الحب، يا أيها الأخوة، أيتها الأخوات:
لنكثر من التوبة مهما تكرر الذنب ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبو هريرة أن الله عز وجل قال لذلك الرجل الذي تكرر منه الذنب فكرر التوبةَ فقال الُله له:
( علم عبدي أن له ربُ يغفر الذنبَ ويأخذَ به، غفرتُ لعبدي، غفرتُ لعبدي، غفرتُ لعبدي فليفعل ما شاء). وعن عقبة ابن عامر أن رجلا أتى النبي (صلى الله علية وآله وسلم) فقال :
( يا رسول الله إن أحدنا يذنب قال الرسول (صلى الله علية وآله وسلم) يكتب عليه، قال الرجلُ ثم يستغفر منه ويتوب قال يغفرُ له ويتابُ عليه، قال فيعودُ فيذنب، قال الرسولُ يكتب عليه، قال الرجل ثم يستغفر منه ويتوب، قال يغفرُ له ويتابُ عليه، قال فيعودُ فيذنب قال (صلى الله علية وآله وسلم) يكتبُ عليه ولا يملُ اللهُ حتى تملوا ). 16
فيا أخي الكريم:
إياك وإهمال التوبة مهما كانت معاصيك والمهم أن تكون جادا في التوبة صادقاً فيها.
أغلق أبواب الشيطان، وسد المنافذ، وافعل الأسباب وستجد أثر ذلك على قلبك.
حفظك الله ورعاك من كل سوء وأعانك ووفقك للتوبة النصوح.
أيها الأخ الحبيب، ويا أيتها الأخت الغالية:
لستي بعيدة ، وإنك قريب جدا، إن السعادةَ بالاستقامة وأنت قريب منها، المهم أن يكون عندك العزم والهم الصادق، قال ابن القيم في الفوائد ( أخرج بالعزمِ من هذا الفناءُ الضيق المحشو بالآفاتِ إلى ذلك الفناءَ الرحبِ الذي فيه ما لا عين رأت فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب ) انتهى كلامه.
فيا أيها المحب، أرجعِ إلى فطرتِك وإلى الخير في نفسك وستجد أنك قريب من الهداية والهدايةُ قريبةُ منك.
فإذا استقام على الهداية ركبنا…..يخضّر فوق هضابنا الإقدام
وترف أغصان السعادة فوقنا…..وتزول من اصقاعنا الأسقام
إن الدنيا بأموالِها ومناصبها وقصورها لا تستاهل قطرة دمع منك، حتى ولا هما أو زفرة من زفراتك.
فالرسول (صلى الله علية وآله وسلم) يقول ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيه إلا ذكر الله وما ولاه وعالما ومتعلما) 17.
والله عز وجل يقول (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ).
فيا أيها المحب:
إن نفسكَ غاليةً، وربما اليومَ أو غدٍ أو بعد غد قالوا مات فلان والموتٌ حق، ولكن شتانَ بين من مات على صلاحٍ وهدايةٍ وبين من مات على فسق وغواية، فإياك والغفلة وطول الأمل والاغترارَ بالصحة.
فكم من صحيح مات من غير علة……وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
ربما تضحك، وتسعد وتنام مسرورا، وقد لا تصبح:
يا راقد الليل مسرورا بأوله…….إن الحوادث قد يطرقنا أسحارا
فيا أيها الأخ، ويا أيتها الأخت: بادرا إلى الفضائل وسارعا إلى الصفات الحميدة والأفعال الجميلة، وكل ذلك بالأيمان الصادق بالله عز وجل.
.نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا جميعا، وأن يغفر لنا جميعا، وأن يجعلنا من الصادقين الصالحين المصلحين.
اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحا.
اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا ارحم الراحمين
سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك.
أشهد أن لا إله إلا أنت.
| | |
13 - 9 - 2014, 01:36 PM
|
#72 |    
رد: مدونة المحاضرات والخطب الاسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
وطريقنا -أعني كل مسلم ومسلمة - يحبُ أن تشيع الألفة والمحبة بين أفراد المجتمع الإسلامي.
وكل مسلم ومسلمة يحب الخير والبر والمعروف والإحسان ومكارم الأخلاق.
أما القلوب فهي قلوبنا جميعا، فنحن بحاجة لفن التعامل مع بعضنا البعض.
بحاجة إلى تعميق روابط الأخوة الإسلامية ومعانيها، نحن بحاجة -أيها الأحبة- إلى تحقيق القاعدة الشرعية:
(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) كما في حديث أنس المتفق عليه.
بحاجة إلى الحوار الهادئ والتعامل المهذب والاحترام المتبادل إلى أن نظهر محاسن هذه العقيدة لنصبح نحن المسلمين قدوات لبعضنا، ومفاتيح خير لغيرنا من أهل الملل والنحل.
بحاجة إلى أن نكسب قلوب بعضنا وأن نكسب قلوب أهل الأديان الأخرى بصدق التوحيد وحسن المعاملة وجميل الأخلاق لتذوق طعم الإيمان ولتعرف حقيقة الإسلام.
نريد أن نكسب القلوب ليس بالمجاملة ولا بالمداهنة ولا بتمييع ديننا ولا بتمزيقه ولا بالتنازل عن المبادئ والأهداف.
وإنما بمكارم الأخلاق، كما قال صلى الله عليه وسلم :
(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) والحديث عند أحمد في المسند.
ولماذا كسب القلوب؟
ليس من أجل الدنيا، ولا متاعها ولا زخرفها ولا من أجل أنفسنا وإظهار محاسنها وتواضعها، لا والله.
بل ولا من أجل تملق الناس وطلب محامدهم وثنائهم.
إنما من أجل ربنا تعبدا وتقربا، فإن الله يحب معالي الأخلاق، ويبغض سفسافها.
واتباعا لحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم فقد كان أحسن الناس خلقا.
وكسب لحب وقرب نبينا يوم القيامة كما قال صلوات الله وسلامه عليه :
(إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا). حسنّه الترمذي.
وتطبيقا لتعاليم شرعنا وآداب ديننا قولا وعملا، وسرا وعلنا، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
(وخالق الناس بخلق حسن).
وشوقا للجنان وتثقيلا للميزان يوم أن نلقى الله فقد قال صلى الله عليه وسلم:
(فأكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق) صححه الترمذي وقال غريب.
وما من شئ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلقٍ حسن،
وتخلقا وتأدبا وإيمانا فأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا.
والله عز وجل يقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم:
( ولو كنتَ فضاً غليظَ القلبِ لنفضوا من حولِك).
إذا فهذه الفضائل وأمثالها مما يحثنا ويشجعنا على اكتساب محاسن الأخلاق وتطبيع نفوسنا عليها، إخلاصا لوجه الله، وطلبا لرضاه فهي عبادة عظيمة وقربة من أجل القُربات فإن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم.
كما في حديث عائشة وصححه الألباني *رحمه الله*.
إذا فهذا طريقنا للقلوب، هذا هو طريقنا للقلوب خططته لكثرة شكاية الناس بعضهم من بعض.
فالزوج يشكو من سوء تعامل زوجه.
والطالب يتظلم من أخلاق أستاذه.
والموظف يتسخط من رئيسه ومديره.
والمكفول يئن ويتوجع من سوء تصرف كفيله.
حتى الصاحب لم يسلم من صاحبه وخليله.
فبحثت عن العلاج فكان هذا الموضوع. إذا فهو رسالة إلى كل مسلم ومسلمة.
إلى كل الطيبين والطيبات، إلى كل المعلمين والمعلمات.
إلى كل الأزواج، إلى كل موظف.
إلى كل مسلم يسافر خارج البلاد.
إلى كل أحد يحب أن يرى الألفة والمحبة ترفرف على المجتمع الإسلامي.
أيها المسلمون لنحرص على مكارم الأخلاق والتحلي بها وذلك بالصبر ومجاهدة النفس وترويضها هذا أولا.
وثانيا بصحبة الصالحين والنظر في سيرهم وأخلاقهم.
وثالثا بمداومة القراءة والإطلاع في كتب الأخلاق.
"كالأدب المفرد" للبخاري
و"مكارم الأخلاق" لأبن أبي الدنيا وللخرائطي
وكتب الشمائل وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
ومن أجمل الكتب المعاصرة التي وقفت عليها في هذا الموضوع "الأخلاق الفاضلة" للرحيلي وهو كتاب جميل
و"هذه أخلاقنا" للخازن دار و"سوء الخلق" للحمد وغيرها كثير.
إذا فلنحرص على التحلي بالأخلاق ومن يتصبر يصبره الله.
فإن أردت الوصول للقلوب، بل وإلى رضاء علام الغيوب سبحانه وتعالى فتنبه لهذه النقاط الثلاث الماضية، ثم أحرص على سماع هذا الموضوع وإسماعه مرات ومرات فإنما العلم بالتعلم وأستعن بالله وأكثر الدعاء والتضرع إليه:
(أن كما أحسنت خلَقي فأحسن خُلقي) كما كان صلى الله عليه وسلم يقول، كما عند أحمد وصححه الألباني.
وقل (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) كما في الترمذي وهو صحيح.
وقل أيضا بل وردد في كل وقت (اللهم أهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) كما في صحيح مسلم.
فهذا أحسن الناس خلقا والذي أثنى الله عليه فقال:
(وإنك لعلى خلقٍ عظيم) لا يترك صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء والتضرع إليه أن يعينه على تهذيب نفسه والتحلي بأحسن الأخلاق، فكيف بي وبك؟ بل كيف بنا جميعا؟ فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله جل وعلا.
* العقيدة والأخلاق:
للأخلاق صلة وثيقة بالإيمان والعقيدة، قال أبن القيم يرحمه الله :
(الدين كله خُلق، فمن زاد عليك في الخُلقِ زاد عليك في الدين).
يقول صاحب رسالة جميلة بعنوان "صلة الأخلاق بالعقيدة والإيمان" :
(إن المتمعن في أحوال الناس يجد كثيرا من المسلمين يغفل عن الاهتمام والاحتساب في هذا الجانب، وقد يجهل الصلة الوثيقة بين محاسن الأخلاق وقضية الإيمان والعقيدة، فبينما تجد الشخص يظن أنه قد حقق التوحيد ومحض الإيمان تراه منطويا على ركام من مساوئ الأخلاق والنقائص التي تخل بإيمانه الواجب أو تحرمه من الكمال المستحب، كالكبر والحسد وسوء الظن والكذب والفحش والأثرة وغير ذلك، وقد يكون مع ذلك جاهلا بضرر هذه الأمور على عقيدته وإيمانه أو غافلا عن شمولية هذا الدين لجميع مناحي الحياة، كما قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، إن تحقيق التوحيد -الكلام لا زال لصاحب الرسالة- إن تحقيق التوحيد وتكميل الإيمان ليس باجتناب الشرك الأكبر فحسب بل باجتناب كل ما ينافي العقيدة وكل ما يخل أو يقدح في كمال التوحيد والإيمان… إلى أخر كلامه هناك)).
إذا فليست العقيدة متون تردد، ونصوصا تحفظ بل لا بد أن تتحول إلى واقع عملي في الحياة، والتعامل بين الناس ولما حصل هذا التصور عند بعض الناس ظهر انفصام نكد وازدواجية بين مفهوم الإيمان ومقتضياته يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
* واقعنا ومكارم الأخلاق:
إن الناس اليوم في عرض الأرض وطولها بحاجة إلى من يقف معهم ويعينهم وإلى من يزيل عنهم الهم والقلق، إلى من يدلهم إلى طريق السعادة والراحة النفسية، بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم إلى طريق النجاة والأمان.
حتى وإن قامت الحضارات، وصنعت المخترعات، وتوالت الإنجازات فكل ذلك من أجل سعادة الإنسان وتكريمه، لكن مع الأسف البشرية اليوم تغرق في بحر الدنيا، يلهث الكثيرُ منهم وراء المال والتجارة، وراء الشهوات والملذات، وراء الرياسة والريادة بأي طريق وبأية صورة ومهما كان الثمن، المهم الوصول للمراد، وهذا هو الواقع الغالب على الناس اليوم -إلا ما شاء الله-.
في خضم هذا اللهثان وفي وسط هذا الإغراق يتلفت البعض ليبحث عن المثل وعن المبادئ وعن الأخلاق والآداب في صفوف الناس، ربما سمع عن التبشير وهو شعار أعلنه المنصرون وتسموا به بل وتمثلوه وللأسف.
يقول أحد الأخوة :
(في يوم من الأيام كنت أراجع طبيبا في أحد المستشفيات، وكنت أرى حسن تعامله وإظهار حرصه بالمريض وحالته، تبادر إلى ذهني أنه أحد المنصرين فقد كنت أقرأ وأسمع عن وسائلهم وأساليبهم، يقول: لكني قطعت هذا الخاطر أخذا بحسن الظن خاصة وأنه عربي، وفي بلد مسلم، لكني عرفت فيما بعد أنه يدين بالنصرانية وربما كان منصرا أو مبشرا كما يقولون) انتهى كلامه.
أيها الأخوة والأخوات:
أليس المسلمون أولى بهذه التسمي "التبشير"؟ وبهذه الأخلاق؟
ألم يقل الحق عز وجل :
(وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)؟
ألم يقل صلى الله عليه وسلم :
(يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)؟
ألسنا كمسلمين أولى بهذا التلطف والتودد للناس؟
ألسنا أولى بالتحلي بالأخلاق وبث الأمل في النفوس؟
لماذا هذا الجفاء والإعراض؟ وهذا التنفير والانقباض عند بعض المسلمين؟
لقد أثرت الماديات والحضارات على أخلاقنا وتعاملنا مع بعضنا بشكل كبير، حتى ظن البعض أنه لا يمكن الجمع بين التقدم الحضاري والكسب المادي وبين التحلي بالأخلاق والآداب، حتى قال أحدهم:
لإن كانت الدنيا أنالتك ثروةً*****وأصبحت منها بعد عسرٍ أخا يسرِ
لقد كشف الإثراء عنك خلائقا*****من اللؤم كانت تحت سترٍ من الفقرِ
فإننا لا نكاد نسمع عن ذي شرف أو تاجر أو منصب وقد تحلى ببعض الأخلاق والآداب إلا ويتذاكره الناس إطراء ومدحا وتعجبا أن يكون بمثل هذا المكان ويتمتع بمثل هذه الأخلاق.
أيها الأخوة:
إن من ينظر ويقرأ عن دين الإسلام خاصة في باب الآداب والأخلاق والمعاملات ليعجب أشد العجب من عظمة هذا الدين ودقة مراعاته للمشاعر والعواطف، وحرصه على نشر المحبة والمودة.
أسمعوا لهذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) صحيح عند أحمد.
لماذا يأخذ بأنفه، وما علاقة الأنف بما صنع؟
إنها عظمة هذا الدين ودقة العناية بمشاعر النفس، والحفاظ على أحاسيسها، يأخذ بأنفه ليوهم من بجواره أن به رعافا فلا يفتضح أمره فيُحرج ويخجل.
قال الخطابي في بذل المجهود شرح سنن أبي داوود قال إنما أمره أن يأخذ بأنفه ليوهم القوم أن به رعافا، وفي هذا الباب من الأخذ بالأدب في ستر العورة وإخفاء القبيح والتورية بما هو أحسن وليس داخلا في باب الرياء والكذب، وإنما هو من باب التجمل واستعمال الحياء وطلب السلامة من الناس.
أرضى للناس جميعا مثل ما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعا كلهم أبناء جنسك
غير عدل أن توخى وحشة الناس بأنسك
فلهم نفس كنفسك ولهم حس كحسك
من ينظر للواقع يرى العجب في الإفلاس الأخلاقي الذي تعيشه كثير من المجتمعات الإسلامية اليوم، بل هناك من انبهر بالحضارة الغربية فنقلها للمسلمين بقضها وقضيضها وإيجابها وسلبها، ونحن مع دعاة التقدم والحضارة في الاستفادة من التكنولوجيا والصناعة وكسب المهارات والخبرات.
لكننا وعلى لسان كل مسلم صادق وغيور، لا وآلف لا لاستيراد العادات والتقاليد الغربية الانحلال الخلقي بإسم الحرية وحقوق المرأة، أما إقحام الفضيلة والستر والعفاف ومكارم الأخلاق في التقدم والتخلف المزعوم فخدعة مكشوفة لا تنطلي إلا على غافل ساذج في فكره دخل أو في قلبه مرض.
إن في أخلاقنا وآدابنا كمسلمين بل وعادتنا وتقاليدنا كعرب ما يملئ قلوبنا بالفخر والاعتزاز والرفعة والسيادة، فالله أختار لنا مقاما عزيزا ومكانا شريفا فقال جل وعز :
(وكذلك جعلناكم أمة وسطاء لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا).
فأسألكم بالله هل هذا المقام يناسب ما يفعله بعض الغافلين والغافلات من تشب وتقليدا بأهل الكفر والشرك في عاداتهم ولباسهم وسيئ أخلاقهم؟
فأنت أيها المسلم يجب أن تكون متبوعا لا تابعا، وقائدا لا منقادا بصفاء عقيدتك وثبات مبدئك، وتعاليم دينك السمحة، وحسن أخلاقك.
فلما لا نعتز بالشخصية الإسلامية؟
ولما لا نعلن للعالم كله أننا أهل دين وخُلق؟ وأن لنا صبغة خاصة تميزنا عن ما سوانا؟ هي :
(صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون).
* الدعاة الصامتون
إننا نملك كنزا عظيما هو كنز الإيمان، لكنه الإيمان حقيقة لا صورة، الإيمان الذي لامست حلاوته شغاف القلوب فظهرت تلك الحلاوة على جوارح ذلك المسلم، أقواله وأفعاله وصفاته، فيوم ذاق طعم الإيمان عرف حقيقة الاستقامة والالتزام فأثر ذلك في سلوكه وصدقه ومعاملته.
يذكر التاريخ لنا أن الإسلام وصل إلى جنوب الهند وسيلان وجزر المالديف وسواحل الصين والفلبين وإندونيسيا وأواسط أفريقيا عن طريق تجار مسلمين لكنهم مسلمون بحق، لم يؤثر عليهم بريق ولمعان الدينار والدرهم، بل تجسد الإسلام في سلوكهم وأمانتهم وصدقهم، فأعجب الناس بهذه الأخلاق، فبحثوا وسألوا عن مصدرها، فدخلوا الإسلام عن رغبة واقتناع.
إن من أكبر وسائل التأثير على النفوس هو التميز في الأخلاق المتمثل في القدوة الصالحة، بل هو أعظم وسيلة لنشر الإسلام في كل مكان.
ومن تتبع سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله، وخاصة في دعوته إلى الله تعالى، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجا، بفضل الله تعالى ثم بفضل خُلقه عليه الصلاة والسلام.
فكم دخل في الإسلام بسبب خُلقه العظيم؟ فهذا يسلم ويقول :
(والله ما كان على الأرض وجه أبغض علي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي).
وذاك يقول:
(اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحد) تأثر بعفو النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتركه على تحجير رحمة الله التي وسعت كل شئ بل قال له :
(لقد تحجرت واسعا).
والأخر يقول :
(فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه)
والرابع يقول:
( يا قومي أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة)
والخامس يقول :
( والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي)
والسادس يقول بعد عفو النبي صلى الله عليه وسلم عنه قال:
( جئتكم من عند خير الناس) ثم يدعو قومه للإسلام فأسلم منهم خلق كثير.
والأمثلة كثيرة في سيرته صلى الله عليه وسلم.
كلُ الأمور تزول عنك وتنقضي…….إلا الثناءُ فإنه لك باقي
ولو أنني خيرتُ كلَ فضيلةٍ…….. ما اخترت غير محاسن الأخلاقِ
ذكر لي أحد الأخوة:
( أن شبابا من العرب في إحدى الدول الغربية استأجروا غرفا من عجوز غربية، فلما انتهت مدت الإيجار رفضوا التسديد، وهربوا بحجة أنها كافرة، وأنهم أي الكفار هم الذين نهبوا أموالنا كعرب )
سبحان الله بأي منطق وأي عقلية يتعاملوا هؤلاء؟ إنه الهوى والجهل بتعاليم وآداب هذا الدين، ألم يعقد العلماء أبوابا في كتب العقيدة والفقه في معاملة المسلم لغير المسلم؟
ومعاملة المحارب للمسلمين وغير المحارب؟
كيف نريد أن نفخر بالإسلام ونحن أول من جهل أحكامه وتخلف عن آدابه؟
قال محدثي :
( وكنت أرغب الإيجار من هذه العجوز فرفضت، خاصة عندما علمت أنني مسلم، وقالت أنتم أيها المسلمون لصوص، يقول وسألتها عن سبب هذا الاتهام؟ فحدثتني بقصتها مع هؤلاء الشباب، قال فحرصت على تغيير هذه الصورة عنا كمسلمين، وبعد محاولات وإغراءات وتعهدات بالدفع مقدما وافقت على تأجيري ووافقت رغم ارتفاع السعر، وسكنت ولا زلت أقدم لها العون وأظهر لها آداب الإسلام وأجاهد نفسي على التحلي بالفضائل مع تذكيرها في بعض الأحيان بأن هذا من آداب الإسلام، وأن ديننا يحثنا على هذه الأخلاق.
يقول فلما حان رحيلي وعند لحظة الوداع فإذا بها تقول لي ودمعتها على خدها:
(يا بني وصية لك أن لا تموت إلا على هذا الدين).
رحم الله علي ابن أصمع لما حضرته الوفاة جمع بنيه فقال:
( يا بني عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم).
أيها الأخ إنما الدنيا حديث فإن استطعت أن تكون منها حديثا حسنا فأفعل، إننا بحاجة إلى من يجسدون مبادئ الإسلام في سلوكهم، ويترجمون فضائله وآدابه في حركاتهم وسكناتهم حتى مع الكفار.
فمن أهم مظاهر علاقة المسلم بالكافر غير المحارب للمسلمين كف الأذى والظلم وعدم التعدي عليه وعلى حقوقه، والتزام مكارم الأخلاق معه من الصدق والأمانة وغيرها من أخلاق الإسلام الحميدة، وجواز إيصال البر والمعروف إليه.
ففي صحيح البخاري أن عمر ابن الخطاب أهدى حلة له إلى أخ له مشرك بمكة كانت قد جاءته من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري أيضا أن ابن عمر ذبحت له شاة في أهله فلما جاء قال:
(أهديتم لجارنا اليهودي؟ )
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
وإنما الإشارة لها لارتباطها بالأخلاق، لكن تنبه وأحذر كل الحذر أن تختلط عليك الأمور.
ففرق بين حسن المعاملة ومكارم الأخلاق والبر والإحسان للكافر غير المحارب وبين الموالاة والمحبة والمودة له، أو تفضيله على أحد من المسلمين أو مجاملته على حساب دينك وعقيدتك كتهنئتهم أو إهدائهم بمناسبة أعيادهم أو نحو ذلك، فإن ذلك كله حرام لا يجوز، وضابط ذلك النصوص من الكتاب والسنة، وأقول أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين، فإن ما عنيت بهذا الموضوع معاملة المسلم للمسلمين، أما معاملته للآخرين من أهل الملل والنحل فله أصوله وضوابطه.
* الأخلاق تصنع الأعاجيب:
إن النفس أيا كانت ومهما بلغت من الانحلال والفساد والتجبر والعناد فإن فيها خيرا كثيرا قد لا تراه العيون أول الأمر،
فقط شئ من العطف على أخطائهم،
شئ من الود الحقيقي لهم، شئ من لعناية به،
لنحاول - أيها الأخوة - تلمس الجانب الطيب في نفوسهم،
إبداءهم بالسلام، ابتسم لهم، أثني على الخير الذي فيهم،
وقبل ذلك كن صادقا ومخلصا غير متصنع ولا مجامل، عندها ستتفجر ينابيع الخير في نفوسهم، وسيمنحوك حبهم وثقتهم مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، لقد جرب ذلك كثيرا.
أذكر أنني قابلت أحد هؤلاء فسلمت وابتسمت وأثنيت على صفة طيبة فيه، وأنا صادق، فلن يعدم إنسان مزية حسنة تكون مفتاحا لقلبه، فأنكشف لي قلب لين رقيق سرعان ما سالت دمعات على وجه تلطخ بسواد المعصية والشهوة، وكان قد شكا جفاء بعض الناصحين وتعجلهم عليه.
أيها الأخوة، كم نخطئ عندما نحكم على الآخرين بمجرد النظر للظاهر، فهذا عمرو ابن العاص يحدث عن نفسه فيقول (لقد رأيتني وما أحد أشد بغض لرسول الله مني، ولا أحب إلى أن أكون قد استمكنت منه فقتلته).
وبعد أن أسلم وعرفه عن قرب انقلب الحال فقال:
( وما كان أحد أحب إلي من رسول الله، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملئ عيني منه إجلالا له، ولو سألت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملئ عيني منه) كما في صحيح مسلم.
إننا نظلم أنفسنا ونظلم الآخرين عندما نحقد على هؤلاء ونتخوف منهم، والحل هو أن تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف على الآخرين، والصبر عليهم.
وباختصار إنها الأخلاق وفن التعامل مع الناس.
يا أهل القرآن، ألم نقرأ في القرآن قول الحق عز وجل :
( وقولوا للناس حسنا).
ألم نقرأ قول الحق ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم).
في الآية الأولى قولُ حسن، وفي الثانية أحسن.
فأين نحن من قول الحسن فضلا على قول أحسن الحسن.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( إن الله كتب الإحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) كما في صحيح مسلم.
فإذا كانت الرحمة والإحسان تصل إلى هذه الدرجة من الرفق وحسن التعامل حتى مع الحيوان، فكيف بالرحمة والإحسان مع بني الإنسان؟
قال أحد الأخوة "
( في موسم للأمطار وأنا على سيارتي مررت بغدير ماء لم أنتبه له، فتراشقت المياه على الجانبين، كان النصيب الأكبر منها لشباب جلسوا على عتبة أحد الأبواب، ويا ليت شعري لو رأيت حالهم قد تبدلت، فالثياب البيضاء كأنها سوداء، والشعرات السوداء خضبت بالطين والماء، فرجعت إليهم فلم أنتبه إلا على أصوات السب واللعان ومناداتي للرفس والطعان، يقول فرجعت إليهم مسلما معتذرا متأسفا، فيا سبحان مقلب القلوب، تحول السب واللعان إلى ترحيب وسلام، ودعوة إلى الطعام بل إلى إخاء ووئام) انتهى كلامه.
فيا أيها الأحبة، أقول باختصار إنها الأخلاق تصنع الأعاجيب، نخطئ كثيرا عندما نعتزل بعض الناس لأننا نشعر أننا أطهر منهم روحا، أو أطيب منهم قلبا، أو أذكى منهم عقلا.
قال رجل لعبد الله ابن المبارك عظني، قال ابن المبارك:
(إذا خرجت من منزلك فلا يقعن بصرك على أحد إلا رأيت أنه خير منك).
وليس معنى هذا أن نتخلى عن مبادئنا ومُثلنا السامية، أو نتملق أو نجامل، لا ولكنها الحكمة والموعظة الحسنة وفن التعامل مع الآخرين. هذا مقتبسُ من رسالة بعنوان " أفراح الروح.
أيها المحب، أنظر لفن التعامل ومحاسن الأخلاق ماذا تفعل.
هذا عكرمة ابن أبي جهل ورث عداوة الإسلام عن أبيه وقاتل المسلمين في كل موطن، وتصدى لهم يوم فتح مكة ثم فر إلى اليمن، بعد أن أهد النبي صلى الله عليه وسلم دمه.
فتأتي زوجه أم حكيم بع إسلامها لرسول الله تطلب الأمان لزوجها فيقول لها - بابي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم :
( هو آمن، ويقول لأصحابه يأتيكم عكرمة ابن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت).
فيأتي عكرمة بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول عكرمة أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وأنت أبر الناس وأصدق الناس، وأوفى الناس، أما والله يا رسول الله لا أدع نفقة كنت أنفقها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالا في الصد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله.
لمسة حانية من نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم نقلت أبن فرعون هذه الأمة إلى صف أولياء الرحمن، وجعلته يندم هذا الندم ويعزم هذا العزم، ويتحول هذا التحول. إنها الأخلاق تصنع الأعاجيب.
*همسة في أذن موظف
أيها الموظف، أين كان موقعك، وفي أي مكان كنت
إنك لم تجلس على هذا الكرسي الذي أنت عليه إلا من أجل خدمة الناس، وقضاء حوائجهم وأداء الأمانة التي تحملتها، أفلا ترى أنك بحسن الاستقبال والابتسامة وإظهار الاهتمام بالمراجع وحاجته تملك قلوب الآخرين حتى وإن لم تقضي حاجتهم، وربما خرجوا من عندك بنفس راضية ولسان يلهج بالثناء والدعاء بل ربما أثنوا عليك ورفعوا ذكرك بكل مجلس، كل هذا وأنت لم تقضي حاجتهم، بل ملكتهم بحسن الأخلاق، فكيف لو استطعت قضاء حاجتهم وتيسير أمرهم.
أيها الحبيب، أنظر إلى هذه النتيجة التي وصلت إليها كسبت القلوب، والذكر الحسن، وقبل ذلك كله كسبت رضاء الله تعالى عز وجل،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم :
( ابتسامتك في وجه أخيك صدقة)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم:
(والكلمة الطيبة صدقة)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم :
(من كان في حاجة أخي كان الله في حاجته)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم:
( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم:
(خير الناس أنفعهم للناس).
إذا فأنت أيها الموظف في عبادة وأنت على مكتبك، فقط استعن بالله وأخلص النية الله، وأتصف بمكارم الأخلاق، وأحرص على نفع الناس وستجد التوفيق في الدنيا والآخرة. ذكر حسن وجميل وحب وتقدير هذا في الدنيا، وأجر كبير من العليم الخبير في الآخرة، كل هذا من خلال عملك ووظيفتك، أجر وغنيمة والموفق من وفقه الله.
وربما قلت الناس لا يرضيهم غلا تلبية رغباتهم، وتنفيذ ما يريدون، بل ربما قلت أن ميزان الناس اليوم في الحكم على الآخرين هو مصالحهم الشخصية.
فأقول لك نعم هذه هو واقع الحال، ونحن لا نبرأ أنفسنا ولكن أخي الحبيب هب أنك بذلت لهم ما استطعت وتخلقت معهم بأحسن الأخلاق ولم يرضوا عنك، أليس حسبك أن يرضى الله عنك، فإنه يعلم أنك قدمت وبذلت ما بوسعك، إذا فأجرك على الله.
وإن لم يرضى الناس فتذكر دائما أن من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس. فأحرص على فضائل الأخلاق وفن التعامل مع لناس فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
( خياركم أحاسنكم أخلاقا ) كما في البخاري ومسلم.
يا من رزقه الله مكانة ووجاهة اعلم أن زكاتها الشفاعة والإعانة للمحتاجين على أن لا يبخس بها حق الآخرين، فإن الشفاعات من أعظم العبادات إذا قصد بها وجه الله.
كتب الحسن ابن سهل كتاب شفاعة فجعل الرجل يشكره، فقال الحسن يا هذا علاما تشكرنا إنا نرى الشفاعات زكاة مروءتنا، ثم أنشد يقول:
فرضت علي زكاة ما ملكت يدي ……. وزكاة جاهي أن أعين وأشفع
فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع ……. فأجهد بوسعك كله أن تنفع
* همسة إلى المعلمين والمعلمات
أيها المعلمون والمعلمات:
( إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير)، كما في الترمذي.
( ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)،كما في صحيح مسلم.
وإني لأظنك أيها المعلم وأنتي أيتها المعلمة من معلمي الناس الخير، وممن يدعو إلى الهدى، فأنتم تجلسون الساعات بل الأيام والشهور والسنوات مع أولاد وبنات المسلمين، ولله در ابن المبارك وهو يقول :
(نحن إلى قليل من الأدب، أحوج منا إلى كثير من العلم).
وأفضل وأيسر وأحسن طريق عرفته في التعليم هو التواضع وفن التعامل ومكارم الأخلاق مع الطلاب والطالبات، ولا يستطيعه إلا من رزقه الله الإخلاص بعلمه وتعليمه، نسأل الله الكريم من فضله.
احترام الطلاب والطالبات وإشعارهم بالحب والاهتمام بمشاكلهم وهمومهم والتجاوز عن أخطائهم والابتسامة والصبر والرفق بالتوجيه مع قوة المادة العلمية، كلها من علامات الشخصية الناجحة للمعلم والمعلمة.
أما الشدة وكتم الأنفاس وشد الأعصاب ورفض المناقشة والتمسك بالرأي وعدم التنازل عنه بحجة قوة الشخصية أمام الطلاب والطالبات فهي أوهام لا تزيد الطين إلا بله. فإن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف كما في صحيح مسلم.
أيها المعلمون والمعلمات، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( من يحرم الرفق يحرم الخير كله) كما في صحيح مسلم.
والقلوب التي تجلس أمامكم كل نهار مهما بلغت من الغفلة والقسوة فهي أحوج مل تكون إلى الرفق والعطف، فإن الرفق وحسن الأخلاق واللمسات الحانية والكلمات العذبة مفاتيح عجيبة في التأثير والتوجيه، فكم عبرة أجهشتها ودمعت أسالتها، ولكنه - وأقوله مرة وثالثة وعاشرة- الإخلاص لله، فمن يؤته فقد أوتي خيرا كثيرا، فليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة واللبيب بالإشارة يفهم.
* هل يمكننا تغيير أخلاقنا
ربما يقول البعض لقد شببت على الشيء فلا أستطيع أن أغير أخلاقي، وهناك من يرى أن الأخلاق ثابتة في الإنسان لا تتغير فهي غرائز فطر عليها، وطبائع جبل عليها، وهناك من يرى أنها تتغير فليس ذلك صعبا ولا مستحيلا.
والحق أن الأخلاق على نوعين:
فمنها ما هو غريزي فطري ومنها ما يكتسب بالممارسة والمجاهدة، ولو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا والمواعظ، ولما قال الله عز وجل :
(قد افلح من تزكى).
وقال (قد أفلح من زكاها).
ولما قال صلى الله عليه وسلام:
(إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتوقى الشر يوقه).
ومن نظر إلى الحيوان وحاله قبل التدريب وبعده أدرك أن الأخلاق عند الإنسان سعلة التغيير لمن رزق الهمة والعزيمة، وحمل نفسه على مكارم الأخلاق وفضائلها.
يقول ابن حزم رحمه الله متحدثا عن تجربته مع نفسه وعن محاولاته في التخلص من عيوبه وعن النتائج التي حصل عليها من جراء ذلك يقول :
( كانت في عيوب فلم أزل بالرياضة والإطلاع على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وآداب النفس أعاني مداواتها حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بالأمور هو الإقرار بها -أي الإقرار بالعيوب- ليتعظ بذلك متعظ يوما إن شاء الله)
ثم أخذ رحمه الله يعدد بعض العيوب في نفسه، ولولا خشية الإطالة لذكرتها لعظيم الفائدة، من أرادها فلينظر في كتابه " الأخلاق والسير في مداواة النفوس ".
ثم قال ومنها - أي العيوب - حقد مفرط قدرت بعون الله تعالى على طيه وستره، وغلبته على إظهار جميع نتائجه وأما قطعه البتة فلم أقدر عليه، وأعجزني أن أصادق من عادني عداوة صحيحة أبدا. انتهى كلامه يرحمه الله.
ويقول أحد الأخوة:
(وقع في قلبي شيء عظيم على أحد أخواني لخير أعطاه الله إياه، فما زال الشيطان بي ونفسي الضعيفة وكنت أهتم وأغتم وأكثر التفكير والخواطر خاصة وأنني كنت متهيئا لهذا الخير الذي آتاه الله أكثر منه.
يقول فما زلت مع نفسي أدفع الخواطر والأفكار الرديئة تارة، و أُنبها تارة، وأذكّرها بفضل سلامة الصدر وتمني الخير للآخرين، وأني أحب لهم ما أحب لنفسي تارة أخرى.
وتارة أذكّرها بخطر الحسد وأضراره وما زلت أستعين بالله وأدعوه حتى انتصرت عل نفسي واستطعت ترويضها، وما زلت مع نفسي بكثيرٍ من هذه المواقف حتى وجدت أنها اعتادت على سلامة الصدر وحسن الظن بالآخرين وتمني الخير لهم. عندها شعرت بسعادة ولذة عجيبة وأقبلت على شئوني وأعمالي بقلب سليم، وفتح الله علي بأمور كثيرة فتحا عجيبا ولله الحمد والمنة، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.) انتهى كلامه.
إذا فلا بد من رياضة النفس وتدريبها أيها الأحبة، وذلك بالمجاهدة والصبر وقوة الملاحظة والنظر في عواقب الأمور قبل الإقدام وطلب النصح من الآخرين ونحو ذلك مما يعين على تغيير الأخلاق والطبائع للأحسن، هداني الله وإياك لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا هو.
* سهام للصيد:
أي صيد القلوب، أعني تلك الفضائل التي تستعطف بها القلوب، وتستر بها العيوب وتستقال بها العثرات، وهي صفات لها أثر سريع وفعال على القلوب، وإلا فإن فضائل ومكارم الأخلاق كثيرة، إليك أيها المحب سهاما سريعة ما أن تطلقها حتى تملك بها القلوب فأحرص عليها وجاهد نفسك على حسن التسديد للوصول للهدف وأستعن بالله.
• السهم الأول الابتسامة
قالوا هي كالملح في الطعام، وهي أسرع سهم تملك به القلوب وهي مع ذلك عبادة وصدقة:
( فتبسمك في وجه أخيك صدقة ) كما في الترمذي.
وقال عبد الله ابن الحارث:
( ما رأيت أحدا أكثر تبسم من رسول الله صلى الله عليه وسلم) عند أحمد بسند حسن.
• السهم الثاني البدء بالسلام
سهم يصيب سويداء القلب ليقع فريسة بين يديك لكن أحسن التسديد ببسط الوجه والبشاشة، وحرارة اللقاء وشد الكف على الكف، وهو أجر وغنيمة فخيرهم الذي يبدأ بالسلام، قال عمر الندي:
(خرجت مع ابن عمر فما لقي صغيرا ولا كبيرا إلا سلم عليه).
وقال الحسن البصري:
(المصافحة تزيد في المودة).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق).
وعند مالك بالموطئ أنه صلى الله عليه وسلم قال:
(تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء).
قل ابن عبد البر هذا يتصل من وجه حسان كلها.
• الهدية سهم ثالث لصيد القلوب
ولها تأثير عجيب فهي تذهب بالسمع والبصر والقلب، وما يفعله الناس من تبادل الهدايا في المناسبات وغيرها أمر محمود بل ومندوب إليه على أن لا يكلف نفسه إلا وسعها، قال إبراهيم الزهري:
(خرجت لأبي جائزته فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته ففعلت، فقال لي تذكر هل بقي أحد أغفلناه، قلت لا قال بلى رجل لقيني فسلم علي سلاما جميلا صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير) انتهى كلامه.
انظروا أثّر فيه السلام الجميل فأراد أن يرد عليه بهدية ويكافئه على ذلك.
• سهم رابع الصمت وقلة الكلام إلا فيما ينفع
وإياك وأرتفع الصوت وكثرت الكلام في المجالس، وإياك وتسيد المجالس وعليك بطيب الكلام ورقة العبارة:
(فالكلمة الطيبة صدقة) كما في الصحيحين، ولها تأثير عجيب في كسب القلوب والتأثير عليها حتى مع الأعداء فضلا عن إخوانك وبني دينك، فهذه عائشة رضي الله عنها قالت لليهود:
( وعليكم السام واللعنة) فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله).
والحديث متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(عليك بحسن الخلق وطول الصمت فو الذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما) أخرجه أبو يعلى والبزار وغيرهما.
قد يخزنُ الورعُ التقي لسانه …… حذر الكلام وإنه لمفوه
• السهم الخامس حسن الاستماع وأدب الإنصات
وعدم مقاطعة المتحدث فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه، ومن جاهد نفسه على هذا أحبه الناس وأعجبوا به بعكس الأخر كثير الثرثرة والمقاطعة، وأسمع لهذا الخلق العجيب عن عطاء قال ( إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد).
• السهم السادس حسن السمت
وجمال الشكل واللباس وطيب الرائحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
( إن الله جميل يحب الجمال ) كما في مسلم.
وعمر ابن الخطاب يقول:
( إنه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الريح).
وقال عبد الله ابن أحمد ابن حنبل:
( إني ما رأيت أحدا أنظف ثوبا وأشد تعهدا لنفسه وشاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبا وأشده بياضا من أحمد ابن حنبل)
• السهم السابع بذل المعروف وقضاء الحوائج
سهم تملك به القلوب وله تأثير عجيب صوره الشاعر بقوله:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم …….. فطالما أستعبد الإنسانَ إحسانُ
بل تملك به محبة الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم :
( أحبُ الناس إلى الله أنفعهم للناس).
والله عز وجل يقول:
( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى …….. مملوك لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء عذبا وباردا ……… على الكبد الحرى لكل صديق
أيها الأخوة والأخوات:
عجبت لمن يشتري المماليك بماله كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه، ومن انتشر إحسانه كثر أعوانه.
• السهم الثامن بذل المال
فإن لكل قلب مفتاح، والمال مفتاح لكثير من القلوب خاصة في مثل هذا الزمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
(إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله في النار) كما في البخاري.
صفوان ابن أمية فر يوم فتح مكة خوفا من المسلمين بعد أن استنفذ كل جهوده في الصد عن الإسلام والكيد والتآمر لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه أن يمهله شهرين لدخول في الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لك تسير أربعة أشهر، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين والطائف كافرا، وبعد حصار الطائف وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في الغنائم يرى صفوان يطيل النظر إلى وادٍ قد امتلئ نعما وشاء ورعاء، فجعل عليه الصلاة والسلام يرمقه ثم قال له يعجبك هذا يا أبا وهب؟ قال نعم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم هو لك وما فيه، فقال صفون عندها، ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أيها الأحبة، لقد استطاع الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذه اللمسات وبهذا التعامل العجيب أن يصل لهذا القلب بعد أن عرف مفتاحه.
فلماذا هذا الشح والبخل؟
ولماذا هذا الإمساك العجيب عند البعض من الناس؟ حتى كأنه يرى الفقر بين عينيه كلما هم بالجود والكرم والإنفاق.
• السهم التاسع إحسان الظن بالآخرين والاعتذار لهم
فما وجدت طريقا أيسر وأفضل للوصول إلى القلوب منه، فأحسن الظن بمن حولك وإياك بسوء الظن بهم وأن تجعل عينيك مرصدا لحركاتهم وسكناتهم، فتحلل بعقلك التصرفات ويذهب بك كل مذهب، وأسمع لقول المتنبي:
إذا ساء فعل المرءِ ساءت ظنونه …… وصدق ما يعتاده من توهم
عود نفسك على الاعتذار لإخوانك جهدك فقد قال ابن المبارك:
( المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم ).
ومن علامات شقاء الأمة أن تشغل بنفسها عن أعدائها.
• أعلن المحبة والمودة للآخرين
فإذا أحببت أحدا أو كانت له منزلة خاصة في نفسك فأخبره بذلك فإنه سهم يصيب القلب ويأسر النفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته بمنزله فليخبره أنه يحبه) كما في صحيح الجامع.
وزاد في رواية مرسلة (فإنه أبقى في الألفة وأثبت للمودة)، لكن بشرط أن تكون المحبة لله، وليس لغرض من أغراض الدنيا كالمنصب والمال، والشهر والوسامة والجمال، فكل أخوة لغير الله هباء، وهي يوم القيامة عداء:
(الأخلاء يوم إذا بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
والمرء مع من أحب كما قال صلى الله عليه وسلم - يعني يوم القيامة -، إذا فاعلان المحبة والمودة من أعظم الطرقِ للتأثير على القلوب. فإما مجتمع مليء بالحب والإخاء والائتلاف، أو مجتمع مليء بالفرقة والتناحر والاختلاف.
لذلك حرص صلى الله عليه وسلم على تكوين مجتمع متحاب فآخاء بين المهاجرين والأنصار، حتى عرف أن فلانا صاحب فلان، وبلغ ذلك الحب أن يوضع المتآخيين في قبر واحد بعد استشهادهما في إحدى الغزوات.
بل أكد صلى الله عليه وسلم على وسائل نشر هذه المحبة ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه:
(لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تأمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) كما في مسلم.
أيها الأخوة، المشاعر والعواطف والأحاسيس الناس منها على طرفي نقيض وللأسف، فهناك من يتعامل مع إخوانه بأسلوب عقليا جامد جاف مجرد من المشاعر والعواطف، وهناك من يتعامل معهم بأسلوب عاطفي حساس رقيق ربما وصل لدرجة العشق والإعجاب والتعلق بالأشخاص.
والموازنة بين العقل والعاطفة يختلف بحسب الأحوال والأشخاص، وهو مطلب لا يستطيعه كل أحد لكنه فضل الله يأتيه من يشاء.
• السهم الحادي عشر المداراة
فهل تحسن فن المدارات؟ وهل تعرف الفرق بين المداراة والمداهنة؟ روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها :
( أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راءه قال بئس أخو العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وأنبسط إليه، فلما أنطلق الرجل، قالت له عائشة يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عائشة متى عهدتني فاحشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس لقاء فحشه) قال ابن حجر في الفتح ( هذا الحديث أصل في المداراة) ونقل قول القرطبي (الفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا).
إذا فالمداراة لين الكلام والبشاشة للفساق وأهل الفحش والبذاءة، أولا اتقاء لفحشهم.
وثانيا لعل في مداراتهم كسبا لهدايتهم بشرط عجم المجاملة في الدين، وإنما في أمور الدنيا فقط، وإلا انتقلت من المداراة إلى المداهنة فهل تحسن فن المداراة بعد ذلك؟ كالتلطف والاعتذار والبشاشة والثناء على الرجل بما فيه لمصلحة شرعية، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
( مداراة الناس صدقة) أخرجه الطبراني من حديث جاب.
وقال أبن بطال:
(المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة)
إذا هذه أسهم للصيد فأحسن التسديد وهي على سبيل المثال، وذكرت منه ما أشرت إليه أنفا وإلا فهي كثيرة.
* الازدواجية في الأخلاق:
لقد شكا الكثير من التقلب والمزاجية والازدواج في الشخصية التي يعيشه بعض الناس اليوم، فمثلا الزوجة المسكينة تسمع عن أخلاق زوجها، وسعة صدره وابتسامته وكرمه، ولكنها لم ترى من ذلك شيئا.
فهو في بيته سيئ الخلق ضيق الصدر عابس الوجه صخاب لعان بخيل ومنان، أين هذا وأمثاله من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
( خيركم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) كما عند ابن ماجة وابن حبان والحاكم.
وأين هو عن قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خيارُكم لنسائهم) كما عند الترمذي بسند صحيح.
قال سلمة أبن دينار:
( السيئ الخلق أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه، هي منه في بلاء، ثم زوجته ثم ولده حتى أنه ليدخل بيته وإنهم لفي سرور فيسمعون صوته فينفرون منه فرقا منه أي خوفا منه، حتى أن دابته تحيد مما يرميها بالحجارة، وإن كلبه ليراه فينزو على الجدار، حتى أن قطه ليفر منه) انتهى كلامه.
وقل مثل ذلك مع الوالدين، فكم أولئك الذين نسمع عن حسن أخلاقهم وكرمهم وابتسامتهم وجميل معاشرتهم للآخرين، أما مع اقرب الناس إليهم وأعظم الناس حقا عليهم الوالدين فجفاء وهجر وبعد ويكفي بلاغة وقوة ورقة قول الحق عز وجل:
( ولا تقل لهما أف).
ومن نظر لحالنا مع آبائنا وأمهاتنا علم ضعف إيماننا وتقصيرنا بأعظم الحقوق علينا بعد توحيد الله والله المستعان.
ومن الازدواجية أيضا، ربما ترى المرأة مثقفة متعلمة جميلة، بل ربما حرصت على صفاء وجهها وبياض أسنانها وتبذل الغالي والنفيس من أجل جمالها وأناقتها، فإذا عرفتها عن قرب وعاشرتها فإذا هي سيئة الأخلاق سريعة الغضب تتذمر وتتسخط، ترفع صوتها على زوجها وتعبس في وجه أختها.
آه لو حرصت النساء على أخلاقهن كحرصهن على جمالهن،
فليس الجمال بأثواب تزيننا ….. بل الجمال جمال العلم والأدب
اعلمي اخيتي في الله أن الجمال الحقيقي هو جمال الأخلاق والأدب، فأفٍ ثم تفٍ لجمال اللباس والشكل مع قلة الحياء والتكشف والعري وضياع القيم والمبادئ،
مررت على المروءة وهي تبكي ……. فقلت علاما تنتحب الفتاة
فقالت كيف لا أبكي وأهلي …….. جميعا دون خلق الله ماتوا
أيتها الأخت، إن الله جعل للإنسان عورتين، عورة الجسم وعورة النفس، وجعل للأولى سترا هو اللباس، وللثانية سترا هو الأخلاق ونبه على الأهم وهو الثاني لأن لباس الإنسان لا يغني عن أخلاقه ألبّته فقال عز وجل:
( يا بني آدم إنا أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا، ولباس التقوى ذلك خير).
اخيتي، إن المرأة العاقلة إذا نطقت جاءت بكل ملاحة وإن سكتت جاءت بكل مليح، فأتقي الله أيتها المرأة واستري عورة النفس بلباس التقوى والحياء ومكارم الأخلاق.
ومن الازدواجية في الأخلاق ما نراه من بعض الناس من حسن الكلام وسعة الصدر والابتسامة، فإذا جاء البيع والشراء والتعامل بالدينار والدرهم تراه مماطلا مماكسا، يجادل ويخاصم وربما تلاشت معاني الأخوة وحقوقها.
قيل لمحمد ابن الحسن ألا تصنف كتابا في الزهد قال:
(صنفت كتابا في البيوع).
يعني رحمه الله أن الزاهد هو من يتحرز عن الشبهات والمكروهات في التجارات وفي سائر المعاملات، وهذا من فقه وذكاء محمد رحمة الله عليه.
يروى أن مسروقا عليه دين ثقيل وكان على أخيه خيثمة دين فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم.
وقال مطرف ابن عبد الله لبعض إخوانه:
( يا أبا فلان إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني وأكتبها في رقعة فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال).
إذا أعسرتُ لم يعلم رفيقي …… وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي ……. ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت بماء وجهي ……. لكنت إلى العلاء سهل الطريق
عن رباح ابن الجراح قال:
( جاء فتح الموصلي إلى منزل صديق له يقال له عيسى التمار فلم يجده، فقال للخادم أخرجي لي كيس أخي فأخرجته فأخذ منه درهمين، وجاء عيسى فأخبرته الخادم، فقال إن كنت صادقة فأنتي حرة، فنظر فإذا هي صادقة فعتقت).
وعن جميل أبن مرة قال:
(مستنا حاجة شديدة، فكان مورق العجلي يأتينا بالصرة فيقول أمسكوا هذه لي عندكم، ثم يمضي غير بعيد فيقول إن احتجتم إليها فأنفقوها)
وقال سفيان ابن عيينه سمعت مساورا الوراق يقول:
( ما كنت لأقول لرجل إني أحبك في الله فأمنعه شيء من الدنيا). مواقف اغرب من الخيال لكنها مكارم الأخلاق عند سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وصدق الأخوة والمحبة في الله.
نسأل الله الكريم من فضله، ونسأل الله عز وجل حسن التأسي بهم رضوان الله عليهم.
ومن مظاهر الازدواجية أيضا أن ترى بعض الشباب يعجبك حسن مظهره، ويجذبك سحر عطره، وتصفيف شعره، ولولا الحياء لأطنبت في الوصف مما يرى ويشاهد على بعض شبابنا هذه الأيام من حرص على المظاهر والأشكال، ومع ذلك انحراف في السلوك والأخلاق فلا مانع لديه أن يكذب وأن يلعن ويشتم وربما يزني ويسرق أو يغش ويخدع، لا مانع لديه أن يتخلى عن دينه وأخلاقه من أجل شهوة، فأفسد المسكين جمال الظاهر وجمال الباطن.
أيها الشاب ليس الإنسان إنسانا بجسمه وصورته لا والله، ولا بثيابه ومظهره، بل هو إنسان بروحه وعقله وخُلقه وخَلقِه،
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ……. أتعبت نفسك في ما فيه خسرانُ
أقبل على النفس وأستكمل فضائلها …….فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
أيها الشاب، هل ينفه الفتيان حسن وجههم إذا كانت الأخلاق غير حسان، إن في قلبك فطرة الخير ففتش عنها وأشعل جذوة الخير فيها.
أيها الشاب، إن من تمام سعادتنا أن نتمتع بمباهج الحياة وشهواتها، لكن في حدود الشرع:
( وأبتغي فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنسى نصيبك من الدنيا).
أيها الشاب، كن رحلاً رجلَه في الثرى وهامة همتَه في الثريا، وتجمل بمكارم الأخلاق والآداب فإنها زينة الرجال.
ومن الازدواجية في الأخلاق أولئك الذين نرى عليهم أثر الصلاح وسيما الخير:
ثم نراهم في أفعالهم وتصرفاتهم يناقضون تلك السمات والآثار، حتى أصبحوا فتنة لغيرهم فأنت لا تسيء لنفسك فقط، بل لنفسك ولغيرك بل وربما لدينك، فإن من يرى سوء الأخلاق منك فسيقول هذه أخلاق الصالحين، وهذا هو الالتزام الذي يذكرون، فعلى هذا وأمثاله أن يراجعوا صلاحهم فقد لا يكون لهم من الصلاح إلا الاسم والرسم.
مدحوا عند القيل ابن عياض رجلا وقالوا إنه لا يأكل الخبيص، فقال رحمه الله:
(وما ترك أكل الخبيص؟ انظروا كيف صلته للرحم، انظروا كيف كضمه للغيظ، انظروا كيف عطفه على الجار والأرملة والمسكين، انظروا كيف حسن خلقه مع إخوانه) انتهى كلامه.
قلي بربك أيها القدوة هل الاستقامة مظهر فقط؟ أم هي حسن تعامل مع فئة من الناس فقط؟
أم أنها سلوك منك وحسن تعامل مع الناس في كل شيء وفي جميع الأحوال، ففي الحديث الصحيح:
( أعظم ما يدخل الناس الجنة تقوى الناس وحسن الخلق) أخرجه الترمذي وابن ماجة.
قال ابن القيم في الفوائد :
(جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق في هذا الحديث لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقِه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته) انتهى كلامه رحمه الله.
ويجب التنبه هنا لأمر مهم اختلط على كثير من الناس إما جهلا وهو الغالب أو بقصد من قلب في دخن ودغل وهو قليل جدا إن شاء الله.
أيها الأخوة إن تخلى المسلمون عن أخلاقهم ومبادئ عقيدتهم فليس معنى هذا أن نتهم الإسلام، أو نتردد بالالتزام بتعاليمه وشرائعه، وإلا فما معنى أن يحكم أناس مسلمون على الإسلام وعلى أهل الصدق منه بالغلو والتطرف والغلظة والفظاظة وسوء الخلق لمجرد أن منتسبا للإسلام أخطئ في تصرفه أو قوله أو تلبس لباس الصادقين من المسلمين؟
إن من أشنع أنواع الظلم أن يؤاخذ الإنسانُ بخطأ غيره فإن الله عز وجل يقول:
(ولا تزر وازرة وزر أخرى )،
أين الإنصاف وأين العدل ؟
والله عز وجل يقول:
(ولا يجرمنكم شنأن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى).
لماذا نتسرع بالحكم على الجميع ونعمم الأخطاء لمجرد أخطاء فردية؟
أين هؤلاء الشانئون من مئات وآلاف من المسلمين والمسلمات ممن نبلت أخلاقهم وعزت نفوسهم.
إنني أعرف وتعرف وأسمع وتسمع وأرى وترى أعدادا ليست بالقليلة ممن ملكوا القلوب بجمال ألفاظهم وأسروا النفوس بحسن أفعالهم، قلوب صافية وأيد حانية وألسن عفيفة، علم وعمل وحب للدين والوطن.
فلماذا لا يذكر هؤلاء ويشهر أمرهم ويتحدث عن نبلهم؟ لماذا ننظر بعين واحدة ونقع على الجروح فقط؟
انظر لنفسك أيها الحبيب، أيها الأخ الشاب وأنت تشكو من هؤلاء، ألست مسلما؟
أولست تخطئ؟ ألست تزل؟
فلربما شكا منك الناس، فأنت تشكو وأنت تُشكى.
ولكن ما أجمل أن بعذر بعضنا بعضا، وأن نعفوا عن الزلات ونستر السيئات ونشهر الحسنات، تناصح وتغافر يطفئ نار الفرقة والاختلاف.
عامل الناس جميعا على أنهم بشر يصيبون ويخطئون، غُض الطرف وتغافل وأصبر فليس الغبي بسيد في قومه…….لكن سيد قومه المتغابي.
ولك أن تسرح بخيالك لترى المجتمع يعيش بهذه المعاني الجميلة فهي من أعظم مكارم الأخلاق، فإن أبيت فأتهم ذلك الشخص ولا تعمم وأتقي الله فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.
* أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
مكارم الأخلاق تشعر الجميع أنك تحبهم بل كل واحد يشعر أنه أحب الناس إلى قلبك، فهل تستطيع هذا، إنك تملك القلوب بأيسر الطرق وأفضلها، هكذا كانت أخلاق قدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم.
فعن عمرو ابن العاص قال:
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه علي حتى ظننت أني خير القوم فقلت يا رسول الله أنا خير أو أبو بكر؟ فقال أبو بكر، فقلت يا رسول الله أنا خير أم عمر؟ فقال عمر، فقلت يا رسول الله أنا خير أم عثمان؟ فقال عثمان. يقول عمرو فلما سألت رسول الله فصدقني فلوددت أني لم أكن سألته) كما في الشمائل لترمذي.
إذا فعمرو ابن العاص ظن أنه أحب الناس وأقرب الناس لقلب رسول صلى الله عليه وسلم.
أخي الحبيب لعلك تسال كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم كسب القلوب إلى هذا الحد؟ بل كسب حتى قلوب أعدائه.
إليك شيئا من شمائله وأخلاقه بإيجاز، رزقني الله وإياك حسن الإقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم.
كان أشد الناس حياء، (أنا أشد الناس حياء).
لا يثبت بصره على أحد، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذرين إليه،
يمزح ولا يقول إلا حقا، يضحك من غير قهقهة، ترفع الأصوات عليه فيصبر،
لا يحتقر مسكينا لفقره، ما ضرب بيده أحدا قط إلا في سبيل الله،
وما أنتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله،
ما كان يجزي بالسيئةَ السيئة ولكن يعفو ويصفح،
كان يبدأ من لقيه بالسلام، كان إذا لقي أحدا من أصحابه بدأه بالمصافحة ثم أخذ بيده فشابكه ثم شد قبضته عليها،
كان يجلس حيث انتهى به المجلس، كان يكرم من يدخل عليه حتى أنه ربما بسط ثوبه ليجلس عليه، كان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، فإن أبا أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل،
كان يعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه وسمعه وبصره وحديثه،
كان يدعو أصحابه بكناهم إكراما لهم واستمالة لقلوبهم،
كان أبعد الناس غضبا وأسرعهم رضاء،
كان أرأف الناس بالناس وخير الناس للناس، فعن أنس رضي الله عنه:
( أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له إن لي إليك حاجة، فقال أجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك) متفق عليه.
وبكلمة جامعة مانعة كان خلقه القرآن، ولذلك أثنى الله عليه فقال:
(وإنك لعلى خلق عظيم).
إذا فمن أراد أن يرى هدي هذا الدين واقعا يعاش فلينظر في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم،وليدرسها دراسة فهم وتدبر بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، يكفي أن كل أحد يقول يوم القيامة نفسي نفسي وهو يقول أمتي أمتي.
يا من يذكرني بعهدِ أحبتي…… طاب الحديثُ بذكرهم ويطيبُ
أعد الحديثَ علي من جنباته…… إن الحديثَ عن الحبيبِ حبيبُ
ملئ الضلوعَ وفاض عن أجنابها……. قلبُ إذا ذكرَ الحبيبُ يذوبُ
ما زال يخفقُ ضاربا بجناحه……… يا ليت شعري هل تطيرُ قلوبُ
* خلاصة الدرس بهذه النقاط:
- ليس مراد المسلم الصادق من حسن تعامله وأخلاقه ولإحسان للناس هو كسب القلوب أو رضاء المخلوقين، أو انتزاع صيحات الإعجاب والمدح والثناء منهم، فمن القبيح أن نتحلى بالأخلاق من أجل كسب القلوب فقط، فلا يظن ظان عند سماعه لعنوان الدرس هذا الظن.
بل هدفنا دائما هو رضاء الله، والله هو الذي أنزل القرآن وأرسل الوحي اللذان منهما نستمد الأخلاق والآداب، ومن أرضى الله، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس.
فتقدير الناس وحبهم له حاصل بحرصه على رضاء الله وإخلاص الأمر له، وقليلون أولئك الذين يحرصون على كسب القلوب لنشر المحبة والإخاء وجمعها على حب الله، وكثير أولئك الذين يحرصون على كسب القلوب ومودة الآخرين من أجل مصالح الدنيا والشفاعات وتسهيل المهام، وهذا النوع من الكسب تبتذل فيه النفوس، ويذبح الحياء وربما يباع الدين بالدنيا من أجله، نعوذ بالله من حال هؤلاء.
- إن لم تكن الأخلاق أصيلة في نفسك تحرص على اكتسابها والتحلي بها وتداوم على تزكية النفس وتهذيبها، ولن تتصنع الأخلاق أبدا فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وإن نجحت مرة أو مرتين فسرعان ما تسفر الأحداث والمواقف عن زيوف النفس وتصنعها وما تخفيه من نوايا ومأرب وأغراض، أما بحثنا عن طريق القلوب فمن أجل علام الغيوب من عفو وصفح ونفع وصبر وطلاقة وجه وطيب وطيبِ كلام ليصبح البعيد قريبا والعدو صديقا فيحبك الناس ومن أحبه الناس ملك قلوبهم وأثر في أفعالهم وإلا فكيف نريد أن يقبل الناس منا وفي قلوبهم لنا جفوة وف نفوسهم نفره.
- أيها الأخوة والأخوات، لا يمكننا التأثير على نفوس الناس أبدا وكسب قلوبهم إلا بتلمس الخير فيهم، والحرص على مكارم الأخلاق معهم، إذا لنملك القلوب لتحبنا القلوب وحينها سترون النتيجة والتأثير فإن من أحبه الناس ملك قلوبهم، وليس معنى هذا أن نترك النصح للآخرين والإنكار عليهم ولا أن نجاملهم في معاصيهم وأخطائهم.
معاشر الأخوة، اسمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
(إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخُلق) أخرجه البزار بسند حسن من حديث أبي هريرة.
- قد لا يستطيع أحدنا أن يملك قلوب الناس بماله ولا بجاهه، وإن تملق الناس له وتصنعوا، فربما أن قلوبهم تمقته، بينما أنت يا صاحب الأخلاق تملك الناس بحسن الأخلاق، يحبك الناس، يرفعونك ويقدرونك، فقط وخالق الناس بخلقٍ حسن كما وصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم معاذ أبن جبل.
قال ابن المبارك (والخُلق الحسن هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى)
وقال الإمام أحمد ( الخُلق الحسن أن لا تغضب ولا تحقد)
وقيل (حسن الخُلق بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى)
وقيل ( هو بذل الجميل وكف القبيح)
وقيل (هو التحلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل)
ويكفي في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم :
(البر حسن الخلق) كما في صحيح مسلم.
قال ابن القيم رحمه الله (وهذا يدل على أن حسن الخُلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام ولهذا قابله بالإثم في الحديث) انتهى كلامه.
- لا تغتر بحسن أخلاقك في الرخاء، بل جرب نفسك في أوقات الشدة والغضب، وكل الأحوال التي يحتاج فيها للأخلاق فعلا، فالإيثار عند قلة الزاد، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة، أما في الرخاء فلا فخر ولا فضل.
- انظر للناس فما كرهته فيهم من أخلاق فأبتعد عنه، فإنهم يكرهون منك ما تكرهه منهم.
- أسال نفسك هل أنت كالنحلة لا تقع إلا على الورود والأزهار، أم أنت كالذباب لا يقع إلا على الأوساخ والأقذار.
- مدار الموضوع كله في آية في كتاب الله تعالى وهي قاعدة في فن التعامل والإحسان للخلق هي قوله تعالى:
( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
لكن هل كل أحد يوفق لهذا؟ لا فإن الله تعالى يقول:
( وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)
وقد جمع الله مكارم الأخلاق في آية أخرى فقال:
( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين).
- الأخلاق الإسلامية معك في كل زمان ومكان، مع ربك ومع الناس وفي بيتك، وفي عملك، وفي البيع والشراء، وفي الجلوة والخلوة، مع الكبير والصغير، والرئيس والمرؤوس، فهي أصيلة في نفسك في كل الأحوال ومع كل الأشخاص في كل مكان.
- حسن الخُلق أركانه أربعة، الصبر والعفة والشجاعة والعدل. وسوء الخلق أركانه أربعة الجهل والظلم والشهوة والغضب.
- ونحن نطالب الناس بمكارم الأخلاق لا ننسى أنهم بشر ومهما جهدوا فلا بد من الهنات والغفلات، فلا نطالب بالمثاليات، خاصة في مثل هذه الأوقات، ولكن أنظر إلى نفسك وعامل الناس كما تحب أن يعاملوك.
يقول أبن المقفع في الأدب الصغير هذه الجملة الجميلة:
( وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساوئها في الدين وفي الأخلاق وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخلة والخلتين والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر، فكلما أصلح شيئا محاه، وكلما نظر إلى محو أستبشر، وكل ما نظر إلى ثابت أكتئب) انتهى كلامه.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسِنها إلا أنت، وأصرف عنا سيئها لا يصرفُ عنا سيئها إلا أنت، اللهم إنك ترى مكانَنا وتسمع كلامَنا وتعلم سرنا وعلانيتنا، ولا يخفى عليك شيءُ من أمرنا، نحن البؤساء الفقراء المستغيثون المستجيرون، والوجلون المشفقون، المقرون المعترفون، نسألُك مسالةَ المساكين، ونبتهل إليك ابتهال المذنبين وندعوك دعاء الخائفين، دعاء من خشعت لك رقابُهم، وذلت لك أجسادهم، وفاضت لك عيونهم، ورغمت لك أنوفهم.
اللهم أصلح فساد قلوبِنا اللهم اصلح فساد قلوبنا وأرحم ضعفنا وحسن أخلاقنا
اللهم إنا لأنفسِنا ظالمون، ومن كثرةِ ذنوبِنا خائفون، ولا يغفر الذنوب إلا أنت يا أرحم الراحمين فأغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم أجمع كلمة المسلمين على التوحيد يا أرحم الراحمين
اللهم آلف بين قلوبهم……………
| | |
13 - 9 - 2014, 01:37 PM
|
#73 |    
رد: مدونة المحاضرات والخطب الاسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
وطريقنا -أعني كل مسلم ومسلمة - يحبُ أن تشيع الألفة والمحبة بين أفراد المجتمع الإسلامي.
وكل مسلم ومسلمة يحب الخير والبر والمعروف والإحسان ومكارم الأخلاق.
أما القلوب فهي قلوبنا جميعا، فنحن بحاجة لفن التعامل مع بعضنا البعض.
بحاجة إلى تعميق روابط الأخوة الإسلامية ومعانيها، نحن بحاجة -أيها الأحبة- إلى تحقيق القاعدة الشرعية:
(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) كما في حديث أنس المتفق عليه.
بحاجة إلى الحوار الهادئ والتعامل المهذب والاحترام المتبادل إلى أن نظهر محاسن هذه العقيدة لنصبح نحن المسلمين قدوات لبعضنا، ومفاتيح خير لغيرنا من أهل الملل والنحل.
بحاجة إلى أن نكسب قلوب بعضنا وأن نكسب قلوب أهل الأديان الأخرى بصدق التوحيد وحسن المعاملة وجميل الأخلاق لتذوق طعم الإيمان ولتعرف حقيقة الإسلام.
نريد أن نكسب القلوب ليس بالمجاملة ولا بالمداهنة ولا بتمييع ديننا ولا بتمزيقه ولا بالتنازل عن المبادئ والأهداف.
وإنما بمكارم الأخلاق، كما قال صلى الله عليه وسلم :
(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) والحديث عند أحمد في المسند.
ولماذا كسب القلوب؟
ليس من أجل الدنيا، ولا متاعها ولا زخرفها ولا من أجل أنفسنا وإظهار محاسنها وتواضعها، لا والله.
بل ولا من أجل تملق الناس وطلب محامدهم وثنائهم.
إنما من أجل ربنا تعبدا وتقربا، فإن الله يحب معالي الأخلاق، ويبغض سفسافها.
واتباعا لحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم فقد كان أحسن الناس خلقا.
وكسب لحب وقرب نبينا يوم القيامة كما قال صلوات الله وسلامه عليه :
(إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا). حسنّه الترمذي.
وتطبيقا لتعاليم شرعنا وآداب ديننا قولا وعملا، وسرا وعلنا، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
(وخالق الناس بخلق حسن).
وشوقا للجنان وتثقيلا للميزان يوم أن نلقى الله فقد قال صلى الله عليه وسلم:
(فأكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق) صححه الترمذي وقال غريب.
وما من شئ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلقٍ حسن،
وتخلقا وتأدبا وإيمانا فأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا.
والله عز وجل يقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم:
( ولو كنتَ فضاً غليظَ القلبِ لنفضوا من حولِك).
إذا فهذه الفضائل وأمثالها مما يحثنا ويشجعنا على اكتساب محاسن الأخلاق وتطبيع نفوسنا عليها، إخلاصا لوجه الله، وطلبا لرضاه فهي عبادة عظيمة وقربة من أجل القُربات فإن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم.
كما في حديث عائشة وصححه الألباني *رحمه الله*.
إذا فهذا طريقنا للقلوب، هذا هو طريقنا للقلوب خططته لكثرة شكاية الناس بعضهم من بعض.
فالزوج يشكو من سوء تعامل زوجه.
والطالب يتظلم من أخلاق أستاذه.
والموظف يتسخط من رئيسه ومديره.
والمكفول يئن ويتوجع من سوء تصرف كفيله.
حتى الصاحب لم يسلم من صاحبه وخليله.
فبحثت عن العلاج فكان هذا الموضوع. إذا فهو رسالة إلى كل مسلم ومسلمة.
إلى كل الطيبين والطيبات، إلى كل المعلمين والمعلمات.
إلى كل الأزواج، إلى كل موظف.
إلى كل مسلم يسافر خارج البلاد.
إلى كل أحد يحب أن يرى الألفة والمحبة ترفرف على المجتمع الإسلامي.
أيها المسلمون لنحرص على مكارم الأخلاق والتحلي بها وذلك بالصبر ومجاهدة النفس وترويضها هذا أولا.
وثانيا بصحبة الصالحين والنظر في سيرهم وأخلاقهم.
وثالثا بمداومة القراءة والإطلاع في كتب الأخلاق.
"كالأدب المفرد" للبخاري
و"مكارم الأخلاق" لأبن أبي الدنيا وللخرائطي
وكتب الشمائل وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
ومن أجمل الكتب المعاصرة التي وقفت عليها في هذا الموضوع "الأخلاق الفاضلة" للرحيلي وهو كتاب جميل
و"هذه أخلاقنا" للخازن دار و"سوء الخلق" للحمد وغيرها كثير.
إذا فلنحرص على التحلي بالأخلاق ومن يتصبر يصبره الله.
فإن أردت الوصول للقلوب، بل وإلى رضاء علام الغيوب سبحانه وتعالى فتنبه لهذه النقاط الثلاث الماضية، ثم أحرص على سماع هذا الموضوع وإسماعه مرات ومرات فإنما العلم بالتعلم وأستعن بالله وأكثر الدعاء والتضرع إليه:
(أن كما أحسنت خلَقي فأحسن خُلقي) كما كان صلى الله عليه وسلم يقول، كما عند أحمد وصححه الألباني.
وقل (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) كما في الترمذي وهو صحيح.
وقل أيضا بل وردد في كل وقت (اللهم أهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) كما في صحيح مسلم.
فهذا أحسن الناس خلقا والذي أثنى الله عليه فقال:
(وإنك لعلى خلقٍ عظيم) لا يترك صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء والتضرع إليه أن يعينه على تهذيب نفسه والتحلي بأحسن الأخلاق، فكيف بي وبك؟ بل كيف بنا جميعا؟ فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله جل وعلا.
* العقيدة والأخلاق:
للأخلاق صلة وثيقة بالإيمان والعقيدة، قال أبن القيم يرحمه الله :
(الدين كله خُلق، فمن زاد عليك في الخُلقِ زاد عليك في الدين).
يقول صاحب رسالة جميلة بعنوان "صلة الأخلاق بالعقيدة والإيمان" :
(إن المتمعن في أحوال الناس يجد كثيرا من المسلمين يغفل عن الاهتمام والاحتساب في هذا الجانب، وقد يجهل الصلة الوثيقة بين محاسن الأخلاق وقضية الإيمان والعقيدة، فبينما تجد الشخص يظن أنه قد حقق التوحيد ومحض الإيمان تراه منطويا على ركام من مساوئ الأخلاق والنقائص التي تخل بإيمانه الواجب أو تحرمه من الكمال المستحب، كالكبر والحسد وسوء الظن والكذب والفحش والأثرة وغير ذلك، وقد يكون مع ذلك جاهلا بضرر هذه الأمور على عقيدته وإيمانه أو غافلا عن شمولية هذا الدين لجميع مناحي الحياة، كما قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، إن تحقيق التوحيد -الكلام لا زال لصاحب الرسالة- إن تحقيق التوحيد وتكميل الإيمان ليس باجتناب الشرك الأكبر فحسب بل باجتناب كل ما ينافي العقيدة وكل ما يخل أو يقدح في كمال التوحيد والإيمان… إلى أخر كلامه هناك)).
إذا فليست العقيدة متون تردد، ونصوصا تحفظ بل لا بد أن تتحول إلى واقع عملي في الحياة، والتعامل بين الناس ولما حصل هذا التصور عند بعض الناس ظهر انفصام نكد وازدواجية بين مفهوم الإيمان ومقتضياته يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
* واقعنا ومكارم الأخلاق:
إن الناس اليوم في عرض الأرض وطولها بحاجة إلى من يقف معهم ويعينهم وإلى من يزيل عنهم الهم والقلق، إلى من يدلهم إلى طريق السعادة والراحة النفسية، بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم إلى طريق النجاة والأمان.
حتى وإن قامت الحضارات، وصنعت المخترعات، وتوالت الإنجازات فكل ذلك من أجل سعادة الإنسان وتكريمه، لكن مع الأسف البشرية اليوم تغرق في بحر الدنيا، يلهث الكثيرُ منهم وراء المال والتجارة، وراء الشهوات والملذات، وراء الرياسة والريادة بأي طريق وبأية صورة ومهما كان الثمن، المهم الوصول للمراد، وهذا هو الواقع الغالب على الناس اليوم -إلا ما شاء الله-.
في خضم هذا اللهثان وفي وسط هذا الإغراق يتلفت البعض ليبحث عن المثل وعن المبادئ وعن الأخلاق والآداب في صفوف الناس، ربما سمع عن التبشير وهو شعار أعلنه المنصرون وتسموا به بل وتمثلوه وللأسف.
يقول أحد الأخوة :
(في يوم من الأيام كنت أراجع طبيبا في أحد المستشفيات، وكنت أرى حسن تعامله وإظهار حرصه بالمريض وحالته، تبادر إلى ذهني أنه أحد المنصرين فقد كنت أقرأ وأسمع عن وسائلهم وأساليبهم، يقول: لكني قطعت هذا الخاطر أخذا بحسن الظن خاصة وأنه عربي، وفي بلد مسلم، لكني عرفت فيما بعد أنه يدين بالنصرانية وربما كان منصرا أو مبشرا كما يقولون) انتهى كلامه.
أيها الأخوة والأخوات:
أليس المسلمون أولى بهذه التسمي "التبشير"؟ وبهذه الأخلاق؟
ألم يقل الحق عز وجل :
(وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)؟
ألم يقل صلى الله عليه وسلم :
(يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)؟
ألسنا كمسلمين أولى بهذا التلطف والتودد للناس؟
ألسنا أولى بالتحلي بالأخلاق وبث الأمل في النفوس؟
لماذا هذا الجفاء والإعراض؟ وهذا التنفير والانقباض عند بعض المسلمين؟
لقد أثرت الماديات والحضارات على أخلاقنا وتعاملنا مع بعضنا بشكل كبير، حتى ظن البعض أنه لا يمكن الجمع بين التقدم الحضاري والكسب المادي وبين التحلي بالأخلاق والآداب، حتى قال أحدهم:
لإن كانت الدنيا أنالتك ثروةً*****وأصبحت منها بعد عسرٍ أخا يسرِ
لقد كشف الإثراء عنك خلائقا*****من اللؤم كانت تحت سترٍ من الفقرِ
فإننا لا نكاد نسمع عن ذي شرف أو تاجر أو منصب وقد تحلى ببعض الأخلاق والآداب إلا ويتذاكره الناس إطراء ومدحا وتعجبا أن يكون بمثل هذا المكان ويتمتع بمثل هذه الأخلاق.
أيها الأخوة:
إن من ينظر ويقرأ عن دين الإسلام خاصة في باب الآداب والأخلاق والمعاملات ليعجب أشد العجب من عظمة هذا الدين ودقة مراعاته للمشاعر والعواطف، وحرصه على نشر المحبة والمودة.
أسمعوا لهذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) صحيح عند أحمد.
لماذا يأخذ بأنفه، وما علاقة الأنف بما صنع؟
إنها عظمة هذا الدين ودقة العناية بمشاعر النفس، والحفاظ على أحاسيسها، يأخذ بأنفه ليوهم من بجواره أن به رعافا فلا يفتضح أمره فيُحرج ويخجل.
قال الخطابي في بذل المجهود شرح سنن أبي داوود قال إنما أمره أن يأخذ بأنفه ليوهم القوم أن به رعافا، وفي هذا الباب من الأخذ بالأدب في ستر العورة وإخفاء القبيح والتورية بما هو أحسن وليس داخلا في باب الرياء والكذب، وإنما هو من باب التجمل واستعمال الحياء وطلب السلامة من الناس.
أرضى للناس جميعا مثل ما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعا كلهم أبناء جنسك
غير عدل أن توخى وحشة الناس بأنسك
فلهم نفس كنفسك ولهم حس كحسك
من ينظر للواقع يرى العجب في الإفلاس الأخلاقي الذي تعيشه كثير من المجتمعات الإسلامية اليوم، بل هناك من انبهر بالحضارة الغربية فنقلها للمسلمين بقضها وقضيضها وإيجابها وسلبها، ونحن مع دعاة التقدم والحضارة في الاستفادة من التكنولوجيا والصناعة وكسب المهارات والخبرات.
لكننا وعلى لسان كل مسلم صادق وغيور، لا وآلف لا لاستيراد العادات والتقاليد الغربية الانحلال الخلقي بإسم الحرية وحقوق المرأة، أما إقحام الفضيلة والستر والعفاف ومكارم الأخلاق في التقدم والتخلف المزعوم فخدعة مكشوفة لا تنطلي إلا على غافل ساذج في فكره دخل أو في قلبه مرض.
إن في أخلاقنا وآدابنا كمسلمين بل وعادتنا وتقاليدنا كعرب ما يملئ قلوبنا بالفخر والاعتزاز والرفعة والسيادة، فالله أختار لنا مقاما عزيزا ومكانا شريفا فقال جل وعز :
(وكذلك جعلناكم أمة وسطاء لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا).
فأسألكم بالله هل هذا المقام يناسب ما يفعله بعض الغافلين والغافلات من تشب وتقليدا بأهل الكفر والشرك في عاداتهم ولباسهم وسيئ أخلاقهم؟
فأنت أيها المسلم يجب أن تكون متبوعا لا تابعا، وقائدا لا منقادا بصفاء عقيدتك وثبات مبدئك، وتعاليم دينك السمحة، وحسن أخلاقك.
فلما لا نعتز بالشخصية الإسلامية؟
ولما لا نعلن للعالم كله أننا أهل دين وخُلق؟ وأن لنا صبغة خاصة تميزنا عن ما سوانا؟ هي :
(صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون).
* الدعاة الصامتون
إننا نملك كنزا عظيما هو كنز الإيمان، لكنه الإيمان حقيقة لا صورة، الإيمان الذي لامست حلاوته شغاف القلوب فظهرت تلك الحلاوة على جوارح ذلك المسلم، أقواله وأفعاله وصفاته، فيوم ذاق طعم الإيمان عرف حقيقة الاستقامة والالتزام فأثر ذلك في سلوكه وصدقه ومعاملته.
يذكر التاريخ لنا أن الإسلام وصل إلى جنوب الهند وسيلان وجزر المالديف وسواحل الصين والفلبين وإندونيسيا وأواسط أفريقيا عن طريق تجار مسلمين لكنهم مسلمون بحق، لم يؤثر عليهم بريق ولمعان الدينار والدرهم، بل تجسد الإسلام في سلوكهم وأمانتهم وصدقهم، فأعجب الناس بهذه الأخلاق، فبحثوا وسألوا عن مصدرها، فدخلوا الإسلام عن رغبة واقتناع.
إن من أكبر وسائل التأثير على النفوس هو التميز في الأخلاق المتمثل في القدوة الصالحة، بل هو أعظم وسيلة لنشر الإسلام في كل مكان.
ومن تتبع سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله، وخاصة في دعوته إلى الله تعالى، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجا، بفضل الله تعالى ثم بفضل خُلقه عليه الصلاة والسلام.
فكم دخل في الإسلام بسبب خُلقه العظيم؟ فهذا يسلم ويقول :
(والله ما كان على الأرض وجه أبغض علي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي).
وذاك يقول:
(اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحد) تأثر بعفو النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتركه على تحجير رحمة الله التي وسعت كل شئ بل قال له :
(لقد تحجرت واسعا).
والأخر يقول :
(فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه)
والرابع يقول:
( يا قومي أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة)
والخامس يقول :
( والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي)
والسادس يقول بعد عفو النبي صلى الله عليه وسلم عنه قال:
( جئتكم من عند خير الناس) ثم يدعو قومه للإسلام فأسلم منهم خلق كثير.
والأمثلة كثيرة في سيرته صلى الله عليه وسلم.
كلُ الأمور تزول عنك وتنقضي…….إلا الثناءُ فإنه لك باقي
ولو أنني خيرتُ كلَ فضيلةٍ…….. ما اخترت غير محاسن الأخلاقِ
ذكر لي أحد الأخوة:
( أن شبابا من العرب في إحدى الدول الغربية استأجروا غرفا من عجوز غربية، فلما انتهت مدت الإيجار رفضوا التسديد، وهربوا بحجة أنها كافرة، وأنهم أي الكفار هم الذين نهبوا أموالنا كعرب )
سبحان الله بأي منطق وأي عقلية يتعاملوا هؤلاء؟ إنه الهوى والجهل بتعاليم وآداب هذا الدين، ألم يعقد العلماء أبوابا في كتب العقيدة والفقه في معاملة المسلم لغير المسلم؟
ومعاملة المحارب للمسلمين وغير المحارب؟
كيف نريد أن نفخر بالإسلام ونحن أول من جهل أحكامه وتخلف عن آدابه؟
قال محدثي :
( وكنت أرغب الإيجار من هذه العجوز فرفضت، خاصة عندما علمت أنني مسلم، وقالت أنتم أيها المسلمون لصوص، يقول وسألتها عن سبب هذا الاتهام؟ فحدثتني بقصتها مع هؤلاء الشباب، قال فحرصت على تغيير هذه الصورة عنا كمسلمين، وبعد محاولات وإغراءات وتعهدات بالدفع مقدما وافقت على تأجيري ووافقت رغم ارتفاع السعر، وسكنت ولا زلت أقدم لها العون وأظهر لها آداب الإسلام وأجاهد نفسي على التحلي بالفضائل مع تذكيرها في بعض الأحيان بأن هذا من آداب الإسلام، وأن ديننا يحثنا على هذه الأخلاق.
يقول فلما حان رحيلي وعند لحظة الوداع فإذا بها تقول لي ودمعتها على خدها:
(يا بني وصية لك أن لا تموت إلا على هذا الدين).
رحم الله علي ابن أصمع لما حضرته الوفاة جمع بنيه فقال:
( يا بني عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم).
أيها الأخ إنما الدنيا حديث فإن استطعت أن تكون منها حديثا حسنا فأفعل، إننا بحاجة إلى من يجسدون مبادئ الإسلام في سلوكهم، ويترجمون فضائله وآدابه في حركاتهم وسكناتهم حتى مع الكفار.
فمن أهم مظاهر علاقة المسلم بالكافر غير المحارب للمسلمين كف الأذى والظلم وعدم التعدي عليه وعلى حقوقه، والتزام مكارم الأخلاق معه من الصدق والأمانة وغيرها من أخلاق الإسلام الحميدة، وجواز إيصال البر والمعروف إليه.
ففي صحيح البخاري أن عمر ابن الخطاب أهدى حلة له إلى أخ له مشرك بمكة كانت قد جاءته من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري أيضا أن ابن عمر ذبحت له شاة في أهله فلما جاء قال:
(أهديتم لجارنا اليهودي؟ )
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
وإنما الإشارة لها لارتباطها بالأخلاق، لكن تنبه وأحذر كل الحذر أن تختلط عليك الأمور.
ففرق بين حسن المعاملة ومكارم الأخلاق والبر والإحسان للكافر غير المحارب وبين الموالاة والمحبة والمودة له، أو تفضيله على أحد من المسلمين أو مجاملته على حساب دينك وعقيدتك كتهنئتهم أو إهدائهم بمناسبة أعيادهم أو نحو ذلك، فإن ذلك كله حرام لا يجوز، وضابط ذلك النصوص من الكتاب والسنة، وأقول أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين، فإن ما عنيت بهذا الموضوع معاملة المسلم للمسلمين، أما معاملته للآخرين من أهل الملل والنحل فله أصوله وضوابطه.
* الأخلاق تصنع الأعاجيب:
إن النفس أيا كانت ومهما بلغت من الانحلال والفساد والتجبر والعناد فإن فيها خيرا كثيرا قد لا تراه العيون أول الأمر،
فقط شئ من العطف على أخطائهم،
شئ من الود الحقيقي لهم، شئ من لعناية به،
لنحاول - أيها الأخوة - تلمس الجانب الطيب في نفوسهم،
إبداءهم بالسلام، ابتسم لهم، أثني على الخير الذي فيهم،
وقبل ذلك كن صادقا ومخلصا غير متصنع ولا مجامل، عندها ستتفجر ينابيع الخير في نفوسهم، وسيمنحوك حبهم وثقتهم مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، لقد جرب ذلك كثيرا.
أذكر أنني قابلت أحد هؤلاء فسلمت وابتسمت وأثنيت على صفة طيبة فيه، وأنا صادق، فلن يعدم إنسان مزية حسنة تكون مفتاحا لقلبه، فأنكشف لي قلب لين رقيق سرعان ما سالت دمعات على وجه تلطخ بسواد المعصية والشهوة، وكان قد شكا جفاء بعض الناصحين وتعجلهم عليه.
أيها الأخوة، كم نخطئ عندما نحكم على الآخرين بمجرد النظر للظاهر، فهذا عمرو ابن العاص يحدث عن نفسه فيقول (لقد رأيتني وما أحد أشد بغض لرسول الله مني، ولا أحب إلى أن أكون قد استمكنت منه فقتلته).
وبعد أن أسلم وعرفه عن قرب انقلب الحال فقال:
( وما كان أحد أحب إلي من رسول الله، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملئ عيني منه إجلالا له، ولو سألت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملئ عيني منه) كما في صحيح مسلم.
إننا نظلم أنفسنا ونظلم الآخرين عندما نحقد على هؤلاء ونتخوف منهم، والحل هو أن تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف على الآخرين، والصبر عليهم.
وباختصار إنها الأخلاق وفن التعامل مع الناس.
يا أهل القرآن، ألم نقرأ في القرآن قول الحق عز وجل :
( وقولوا للناس حسنا).
ألم نقرأ قول الحق ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم).
في الآية الأولى قولُ حسن، وفي الثانية أحسن.
فأين نحن من قول الحسن فضلا على قول أحسن الحسن.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( إن الله كتب الإحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) كما في صحيح مسلم.
فإذا كانت الرحمة والإحسان تصل إلى هذه الدرجة من الرفق وحسن التعامل حتى مع الحيوان، فكيف بالرحمة والإحسان مع بني الإنسان؟
قال أحد الأخوة "
( في موسم للأمطار وأنا على سيارتي مررت بغدير ماء لم أنتبه له، فتراشقت المياه على الجانبين، كان النصيب الأكبر منها لشباب جلسوا على عتبة أحد الأبواب، ويا ليت شعري لو رأيت حالهم قد تبدلت، فالثياب البيضاء كأنها سوداء، والشعرات السوداء خضبت بالطين والماء، فرجعت إليهم فلم أنتبه إلا على أصوات السب واللعان ومناداتي للرفس والطعان، يقول فرجعت إليهم مسلما معتذرا متأسفا، فيا سبحان مقلب القلوب، تحول السب واللعان إلى ترحيب وسلام، ودعوة إلى الطعام بل إلى إخاء ووئام) انتهى كلامه.
فيا أيها الأحبة، أقول باختصار إنها الأخلاق تصنع الأعاجيب، نخطئ كثيرا عندما نعتزل بعض الناس لأننا نشعر أننا أطهر منهم روحا، أو أطيب منهم قلبا، أو أذكى منهم عقلا.
قال رجل لعبد الله ابن المبارك عظني، قال ابن المبارك:
(إذا خرجت من منزلك فلا يقعن بصرك على أحد إلا رأيت أنه خير منك).
وليس معنى هذا أن نتخلى عن مبادئنا ومُثلنا السامية، أو نتملق أو نجامل، لا ولكنها الحكمة والموعظة الحسنة وفن التعامل مع الآخرين. هذا مقتبسُ من رسالة بعنوان " أفراح الروح.
أيها المحب، أنظر لفن التعامل ومحاسن الأخلاق ماذا تفعل.
هذا عكرمة ابن أبي جهل ورث عداوة الإسلام عن أبيه وقاتل المسلمين في كل موطن، وتصدى لهم يوم فتح مكة ثم فر إلى اليمن، بعد أن أهد النبي صلى الله عليه وسلم دمه.
فتأتي زوجه أم حكيم بع إسلامها لرسول الله تطلب الأمان لزوجها فيقول لها - بابي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم :
( هو آمن، ويقول لأصحابه يأتيكم عكرمة ابن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت).
فيأتي عكرمة بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول عكرمة أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وأنت أبر الناس وأصدق الناس، وأوفى الناس، أما والله يا رسول الله لا أدع نفقة كنت أنفقها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالا في الصد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله.
لمسة حانية من نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم نقلت أبن فرعون هذه الأمة إلى صف أولياء الرحمن، وجعلته يندم هذا الندم ويعزم هذا العزم، ويتحول هذا التحول. إنها الأخلاق تصنع الأعاجيب.
*همسة في أذن موظف
أيها الموظف، أين كان موقعك، وفي أي مكان كنت
إنك لم تجلس على هذا الكرسي الذي أنت عليه إلا من أجل خدمة الناس، وقضاء حوائجهم وأداء الأمانة التي تحملتها، أفلا ترى أنك بحسن الاستقبال والابتسامة وإظهار الاهتمام بالمراجع وحاجته تملك قلوب الآخرين حتى وإن لم تقضي حاجتهم، وربما خرجوا من عندك بنفس راضية ولسان يلهج بالثناء والدعاء بل ربما أثنوا عليك ورفعوا ذكرك بكل مجلس، كل هذا وأنت لم تقضي حاجتهم، بل ملكتهم بحسن الأخلاق، فكيف لو استطعت قضاء حاجتهم وتيسير أمرهم.
أيها الحبيب، أنظر إلى هذه النتيجة التي وصلت إليها كسبت القلوب، والذكر الحسن، وقبل ذلك كله كسبت رضاء الله تعالى عز وجل،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم :
( ابتسامتك في وجه أخيك صدقة)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم:
(والكلمة الطيبة صدقة)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم :
(من كان في حاجة أخي كان الله في حاجته)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم:
( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم:
(خير الناس أنفعهم للناس).
إذا فأنت أيها الموظف في عبادة وأنت على مكتبك، فقط استعن بالله وأخلص النية الله، وأتصف بمكارم الأخلاق، وأحرص على نفع الناس وستجد التوفيق في الدنيا والآخرة. ذكر حسن وجميل وحب وتقدير هذا في الدنيا، وأجر كبير من العليم الخبير في الآخرة، كل هذا من خلال عملك ووظيفتك، أجر وغنيمة والموفق من وفقه الله.
وربما قلت الناس لا يرضيهم غلا تلبية رغباتهم، وتنفيذ ما يريدون، بل ربما قلت أن ميزان الناس اليوم في الحكم على الآخرين هو مصالحهم الشخصية.
فأقول لك نعم هذه هو واقع الحال، ونحن لا نبرأ أنفسنا ولكن أخي الحبيب هب أنك بذلت لهم ما استطعت وتخلقت معهم بأحسن الأخلاق ولم يرضوا عنك، أليس حسبك أن يرضى الله عنك، فإنه يعلم أنك قدمت وبذلت ما بوسعك، إذا فأجرك على الله.
وإن لم يرضى الناس فتذكر دائما أن من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس. فأحرص على فضائل الأخلاق وفن التعامل مع لناس فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
( خياركم أحاسنكم أخلاقا ) كما في البخاري ومسلم.
يا من رزقه الله مكانة ووجاهة اعلم أن زكاتها الشفاعة والإعانة للمحتاجين على أن لا يبخس بها حق الآخرين، فإن الشفاعات من أعظم العبادات إذا قصد بها وجه الله.
كتب الحسن ابن سهل كتاب شفاعة فجعل الرجل يشكره، فقال الحسن يا هذا علاما تشكرنا إنا نرى الشفاعات زكاة مروءتنا، ثم أنشد يقول:
فرضت علي زكاة ما ملكت يدي ……. وزكاة جاهي أن أعين وأشفع
فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع ……. فأجهد بوسعك كله أن تنفع
* همسة إلى المعلمين والمعلمات
أيها المعلمون والمعلمات:
( إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير)، كما في الترمذي.
( ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)،كما في صحيح مسلم.
وإني لأظنك أيها المعلم وأنتي أيتها المعلمة من معلمي الناس الخير، وممن يدعو إلى الهدى، فأنتم تجلسون الساعات بل الأيام والشهور والسنوات مع أولاد وبنات المسلمين، ولله در ابن المبارك وهو يقول :
(نحن إلى قليل من الأدب، أحوج منا إلى كثير من العلم).
وأفضل وأيسر وأحسن طريق عرفته في التعليم هو التواضع وفن التعامل ومكارم الأخلاق مع الطلاب والطالبات، ولا يستطيعه إلا من رزقه الله الإخلاص بعلمه وتعليمه، نسأل الله الكريم من فضله.
احترام الطلاب والطالبات وإشعارهم بالحب والاهتمام بمشاكلهم وهمومهم والتجاوز عن أخطائهم والابتسامة والصبر والرفق بالتوجيه مع قوة المادة العلمية، كلها من علامات الشخصية الناجحة للمعلم والمعلمة.
أما الشدة وكتم الأنفاس وشد الأعصاب ورفض المناقشة والتمسك بالرأي وعدم التنازل عنه بحجة قوة الشخصية أمام الطلاب والطالبات فهي أوهام لا تزيد الطين إلا بله. فإن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف كما في صحيح مسلم.
أيها المعلمون والمعلمات، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( من يحرم الرفق يحرم الخير كله) كما في صحيح مسلم.
والقلوب التي تجلس أمامكم كل نهار مهما بلغت من الغفلة والقسوة فهي أحوج مل تكون إلى الرفق والعطف، فإن الرفق وحسن الأخلاق واللمسات الحانية والكلمات العذبة مفاتيح عجيبة في التأثير والتوجيه، فكم عبرة أجهشتها ودمعت أسالتها، ولكنه - وأقوله مرة وثالثة وعاشرة- الإخلاص لله، فمن يؤته فقد أوتي خيرا كثيرا، فليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة واللبيب بالإشارة يفهم.
* هل يمكننا تغيير أخلاقنا
ربما يقول البعض لقد شببت على الشيء فلا أستطيع أن أغير أخلاقي، وهناك من يرى أن الأخلاق ثابتة في الإنسان لا تتغير فهي غرائز فطر عليها، وطبائع جبل عليها، وهناك من يرى أنها تتغير فليس ذلك صعبا ولا مستحيلا.
والحق أن الأخلاق على نوعين:
فمنها ما هو غريزي فطري ومنها ما يكتسب بالممارسة والمجاهدة، ولو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا والمواعظ، ولما قال الله عز وجل :
(قد افلح من تزكى).
وقال (قد أفلح من زكاها).
ولما قال صلى الله عليه وسلام:
(إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتوقى الشر يوقه).
ومن نظر إلى الحيوان وحاله قبل التدريب وبعده أدرك أن الأخلاق عند الإنسان سعلة التغيير لمن رزق الهمة والعزيمة، وحمل نفسه على مكارم الأخلاق وفضائلها.
يقول ابن حزم رحمه الله متحدثا عن تجربته مع نفسه وعن محاولاته في التخلص من عيوبه وعن النتائج التي حصل عليها من جراء ذلك يقول :
( كانت في عيوب فلم أزل بالرياضة والإطلاع على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وآداب النفس أعاني مداواتها حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بالأمور هو الإقرار بها -أي الإقرار بالعيوب- ليتعظ بذلك متعظ يوما إن شاء الله)
ثم أخذ رحمه الله يعدد بعض العيوب في نفسه، ولولا خشية الإطالة لذكرتها لعظيم الفائدة، من أرادها فلينظر في كتابه " الأخلاق والسير في مداواة النفوس ".
ثم قال ومنها - أي العيوب - حقد مفرط قدرت بعون الله تعالى على طيه وستره، وغلبته على إظهار جميع نتائجه وأما قطعه البتة فلم أقدر عليه، وأعجزني أن أصادق من عادني عداوة صحيحة أبدا. انتهى كلامه يرحمه الله.
ويقول أحد الأخوة:
(وقع في قلبي شيء عظيم على أحد أخواني لخير أعطاه الله إياه، فما زال الشيطان بي ونفسي الضعيفة وكنت أهتم وأغتم وأكثر التفكير والخواطر خاصة وأنني كنت متهيئا لهذا الخير الذي آتاه الله أكثر منه.
يقول فما زلت مع نفسي أدفع الخواطر والأفكار الرديئة تارة، و أُنبها تارة، وأذكّرها بفضل سلامة الصدر وتمني الخير للآخرين، وأني أحب لهم ما أحب لنفسي تارة أخرى.
وتارة أذكّرها بخطر الحسد وأضراره وما زلت أستعين بالله وأدعوه حتى انتصرت عل نفسي واستطعت ترويضها، وما زلت مع نفسي بكثيرٍ من هذه المواقف حتى وجدت أنها اعتادت على سلامة الصدر وحسن الظن بالآخرين وتمني الخير لهم. عندها شعرت بسعادة ولذة عجيبة وأقبلت على شئوني وأعمالي بقلب سليم، وفتح الله علي بأمور كثيرة فتحا عجيبا ولله الحمد والمنة، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.) انتهى كلامه.
إذا فلا بد من رياضة النفس وتدريبها أيها الأحبة، وذلك بالمجاهدة والصبر وقوة الملاحظة والنظر في عواقب الأمور قبل الإقدام وطلب النصح من الآخرين ونحو ذلك مما يعين على تغيير الأخلاق والطبائع للأحسن، هداني الله وإياك لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا هو.
* سهام للصيد:
أي صيد القلوب، أعني تلك الفضائل التي تستعطف بها القلوب، وتستر بها العيوب وتستقال بها العثرات، وهي صفات لها أثر سريع وفعال على القلوب، وإلا فإن فضائل ومكارم الأخلاق كثيرة، إليك أيها المحب سهاما سريعة ما أن تطلقها حتى تملك بها القلوب فأحرص عليها وجاهد نفسك على حسن التسديد للوصول للهدف وأستعن بالله.
• السهم الأول الابتسامة
قالوا هي كالملح في الطعام، وهي أسرع سهم تملك به القلوب وهي مع ذلك عبادة وصدقة:
( فتبسمك في وجه أخيك صدقة ) كما في الترمذي.
وقال عبد الله ابن الحارث:
( ما رأيت أحدا أكثر تبسم من رسول الله صلى الله عليه وسلم) عند أحمد بسند حسن.
• السهم الثاني البدء بالسلام
سهم يصيب سويداء القلب ليقع فريسة بين يديك لكن أحسن التسديد ببسط الوجه والبشاشة، وحرارة اللقاء وشد الكف على الكف، وهو أجر وغنيمة فخيرهم الذي يبدأ بالسلام، قال عمر الندي:
(خرجت مع ابن عمر فما لقي صغيرا ولا كبيرا إلا سلم عليه).
وقال الحسن البصري:
(المصافحة تزيد في المودة).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق).
وعند مالك بالموطئ أنه صلى الله عليه وسلم قال:
(تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء).
قل ابن عبد البر هذا يتصل من وجه حسان كلها.
• الهدية سهم ثالث لصيد القلوب
ولها تأثير عجيب فهي تذهب بالسمع والبصر والقلب، وما يفعله الناس من تبادل الهدايا في المناسبات وغيرها أمر محمود بل ومندوب إليه على أن لا يكلف نفسه إلا وسعها، قال إبراهيم الزهري:
(خرجت لأبي جائزته فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته ففعلت، فقال لي تذكر هل بقي أحد أغفلناه، قلت لا قال بلى رجل لقيني فسلم علي سلاما جميلا صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير) انتهى كلامه.
انظروا أثّر فيه السلام الجميل فأراد أن يرد عليه بهدية ويكافئه على ذلك.
• سهم رابع الصمت وقلة الكلام إلا فيما ينفع
وإياك وأرتفع الصوت وكثرت الكلام في المجالس، وإياك وتسيد المجالس وعليك بطيب الكلام ورقة العبارة:
(فالكلمة الطيبة صدقة) كما في الصحيحين، ولها تأثير عجيب في كسب القلوب والتأثير عليها حتى مع الأعداء فضلا عن إخوانك وبني دينك، فهذه عائشة رضي الله عنها قالت لليهود:
( وعليكم السام واللعنة) فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله).
والحديث متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(عليك بحسن الخلق وطول الصمت فو الذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما) أخرجه أبو يعلى والبزار وغيرهما.
قد يخزنُ الورعُ التقي لسانه …… حذر الكلام وإنه لمفوه
• السهم الخامس حسن الاستماع وأدب الإنصات
وعدم مقاطعة المتحدث فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه، ومن جاهد نفسه على هذا أحبه الناس وأعجبوا به بعكس الأخر كثير الثرثرة والمقاطعة، وأسمع لهذا الخلق العجيب عن عطاء قال ( إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد).
• السهم السادس حسن السمت
وجمال الشكل واللباس وطيب الرائحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
( إن الله جميل يحب الجمال ) كما في مسلم.
وعمر ابن الخطاب يقول:
( إنه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الريح).
وقال عبد الله ابن أحمد ابن حنبل:
( إني ما رأيت أحدا أنظف ثوبا وأشد تعهدا لنفسه وشاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبا وأشده بياضا من أحمد ابن حنبل)
• السهم السابع بذل المعروف وقضاء الحوائج
سهم تملك به القلوب وله تأثير عجيب صوره الشاعر بقوله:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم …….. فطالما أستعبد الإنسانَ إحسانُ
بل تملك به محبة الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم :
( أحبُ الناس إلى الله أنفعهم للناس).
والله عز وجل يقول:
( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى …….. مملوك لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء عذبا وباردا ……… على الكبد الحرى لكل صديق
أيها الأخوة والأخوات:
عجبت لمن يشتري المماليك بماله كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه، ومن انتشر إحسانه كثر أعوانه.
• السهم الثامن بذل المال
فإن لكل قلب مفتاح، والمال مفتاح لكثير من القلوب خاصة في مثل هذا الزمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
(إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله في النار) كما في البخاري.
صفوان ابن أمية فر يوم فتح مكة خوفا من المسلمين بعد أن استنفذ كل جهوده في الصد عن الإسلام والكيد والتآمر لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه أن يمهله شهرين لدخول في الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لك تسير أربعة أشهر، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين والطائف كافرا، وبعد حصار الطائف وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في الغنائم يرى صفوان يطيل النظر إلى وادٍ قد امتلئ نعما وشاء ورعاء، فجعل عليه الصلاة والسلام يرمقه ثم قال له يعجبك هذا يا أبا وهب؟ قال نعم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم هو لك وما فيه، فقال صفون عندها، ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أيها الأحبة، لقد استطاع الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذه اللمسات وبهذا التعامل العجيب أن يصل لهذا القلب بعد أن عرف مفتاحه.
فلماذا هذا الشح والبخل؟
ولماذا هذا الإمساك العجيب عند البعض من الناس؟ حتى كأنه يرى الفقر بين عينيه كلما هم بالجود والكرم والإنفاق.
• السهم التاسع إحسان الظن بالآخرين والاعتذار لهم
فما وجدت طريقا أيسر وأفضل للوصول إلى القلوب منه، فأحسن الظن بمن حولك وإياك بسوء الظن بهم وأن تجعل عينيك مرصدا لحركاتهم وسكناتهم، فتحلل بعقلك التصرفات ويذهب بك كل مذهب، وأسمع لقول المتنبي:
إذا ساء فعل المرءِ ساءت ظنونه …… وصدق ما يعتاده من توهم
عود نفسك على الاعتذار لإخوانك جهدك فقد قال ابن المبارك:
( المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم ).
ومن علامات شقاء الأمة أن تشغل بنفسها عن أعدائها.
• أعلن المحبة والمودة للآخرين
فإذا أحببت أحدا أو كانت له منزلة خاصة في نفسك فأخبره بذلك فإنه سهم يصيب القلب ويأسر النفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته بمنزله فليخبره أنه يحبه) كما في صحيح الجامع.
وزاد في رواية مرسلة (فإنه أبقى في الألفة وأثبت للمودة)، لكن بشرط أن تكون المحبة لله، وليس لغرض من أغراض الدنيا كالمنصب والمال، والشهر والوسامة والجمال، فكل أخوة لغير الله هباء، وهي يوم القيامة عداء:
(الأخلاء يوم إذا بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
والمرء مع من أحب كما قال صلى الله عليه وسلم - يعني يوم القيامة -، إذا فاعلان المحبة والمودة من أعظم الطرقِ للتأثير على القلوب. فإما مجتمع مليء بالحب والإخاء والائتلاف، أو مجتمع مليء بالفرقة والتناحر والاختلاف.
لذلك حرص صلى الله عليه وسلم على تكوين مجتمع متحاب فآخاء بين المهاجرين والأنصار، حتى عرف أن فلانا صاحب فلان، وبلغ ذلك الحب أن يوضع المتآخيين في قبر واحد بعد استشهادهما في إحدى الغزوات.
بل أكد صلى الله عليه وسلم على وسائل نشر هذه المحبة ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه:
(لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تأمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) كما في مسلم.
أيها الأخوة، المشاعر والعواطف والأحاسيس الناس منها على طرفي نقيض وللأسف، فهناك من يتعامل مع إخوانه بأسلوب عقليا جامد جاف مجرد من المشاعر والعواطف، وهناك من يتعامل معهم بأسلوب عاطفي حساس رقيق ربما وصل لدرجة العشق والإعجاب والتعلق بالأشخاص.
والموازنة بين العقل والعاطفة يختلف بحسب الأحوال والأشخاص، وهو مطلب لا يستطيعه كل أحد لكنه فضل الله يأتيه من يشاء.
• السهم الحادي عشر المداراة
فهل تحسن فن المدارات؟ وهل تعرف الفرق بين المداراة والمداهنة؟ روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها :
( أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راءه قال بئس أخو العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وأنبسط إليه، فلما أنطلق الرجل، قالت له عائشة يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عائشة متى عهدتني فاحشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس لقاء فحشه) قال ابن حجر في الفتح ( هذا الحديث أصل في المداراة) ونقل قول القرطبي (الفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا).
إذا فالمداراة لين الكلام والبشاشة للفساق وأهل الفحش والبذاءة، أولا اتقاء لفحشهم.
وثانيا لعل في مداراتهم كسبا لهدايتهم بشرط عجم المجاملة في الدين، وإنما في أمور الدنيا فقط، وإلا انتقلت من المداراة إلى المداهنة فهل تحسن فن المداراة بعد ذلك؟ كالتلطف والاعتذار والبشاشة والثناء على الرجل بما فيه لمصلحة شرعية، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
( مداراة الناس صدقة) أخرجه الطبراني من حديث جاب.
وقال أبن بطال:
(المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة)
إذا هذه أسهم للصيد فأحسن التسديد وهي على سبيل المثال، وذكرت منه ما أشرت إليه أنفا وإلا فهي كثيرة.
* الازدواجية في الأخلاق:
لقد شكا الكثير من التقلب والمزاجية والازدواج في الشخصية التي يعيشه بعض الناس اليوم، فمثلا الزوجة المسكينة تسمع عن أخلاق زوجها، وسعة صدره وابتسامته وكرمه، ولكنها لم ترى من ذلك شيئا.
فهو في بيته سيئ الخلق ضيق الصدر عابس الوجه صخاب لعان بخيل ومنان، أين هذا وأمثاله من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
( خيركم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) كما عند ابن ماجة وابن حبان والحاكم.
وأين هو عن قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خيارُكم لنسائهم) كما عند الترمذي بسند صحيح.
قال سلمة أبن دينار:
( السيئ الخلق أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه، هي منه في بلاء، ثم زوجته ثم ولده حتى أنه ليدخل بيته وإنهم لفي سرور فيسمعون صوته فينفرون منه فرقا منه أي خوفا منه، حتى أن دابته تحيد مما يرميها بالحجارة، وإن كلبه ليراه فينزو على الجدار، حتى أن قطه ليفر منه) انتهى كلامه.
وقل مثل ذلك مع الوالدين، فكم أولئك الذين نسمع عن حسن أخلاقهم وكرمهم وابتسامتهم وجميل معاشرتهم للآخرين، أما مع اقرب الناس إليهم وأعظم الناس حقا عليهم الوالدين فجفاء وهجر وبعد ويكفي بلاغة وقوة ورقة قول الحق عز وجل:
( ولا تقل لهما أف).
ومن نظر لحالنا مع آبائنا وأمهاتنا علم ضعف إيماننا وتقصيرنا بأعظم الحقوق علينا بعد توحيد الله والله المستعان.
ومن الازدواجية أيضا، ربما ترى المرأة مثقفة متعلمة جميلة، بل ربما حرصت على صفاء وجهها وبياض أسنانها وتبذل الغالي والنفيس من أجل جمالها وأناقتها، فإذا عرفتها عن قرب وعاشرتها فإذا هي سيئة الأخلاق سريعة الغضب تتذمر وتتسخط، ترفع صوتها على زوجها وتعبس في وجه أختها.
آه لو حرصت النساء على أخلاقهن كحرصهن على جمالهن،
فليس الجمال بأثواب تزيننا ….. بل الجمال جمال العلم والأدب
اعلمي اخيتي في الله أن الجمال الحقيقي هو جمال الأخلاق والأدب، فأفٍ ثم تفٍ لجمال اللباس والشكل مع قلة الحياء والتكشف والعري وضياع القيم والمبادئ،
مررت على المروءة وهي تبكي ……. فقلت علاما تنتحب الفتاة
فقالت كيف لا أبكي وأهلي …….. جميعا دون خلق الله ماتوا
أيتها الأخت، إن الله جعل للإنسان عورتين، عورة الجسم وعورة النفس، وجعل للأولى سترا هو اللباس، وللثانية سترا هو الأخلاق ونبه على الأهم وهو الثاني لأن لباس الإنسان لا يغني عن أخلاقه ألبّته فقال عز وجل:
( يا بني آدم إنا أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا، ولباس التقوى ذلك خير).
اخيتي، إن المرأة العاقلة إذا نطقت جاءت بكل ملاحة وإن سكتت جاءت بكل مليح، فأتقي الله أيتها المرأة واستري عورة النفس بلباس التقوى والحياء ومكارم الأخلاق.
ومن الازدواجية في الأخلاق ما نراه من بعض الناس من حسن الكلام وسعة الصدر والابتسامة، فإذا جاء البيع والشراء والتعامل بالدينار والدرهم تراه مماطلا مماكسا، يجادل ويخاصم وربما تلاشت معاني الأخوة وحقوقها.
قيل لمحمد ابن الحسن ألا تصنف كتابا في الزهد قال:
(صنفت كتابا في البيوع).
يعني رحمه الله أن الزاهد هو من يتحرز عن الشبهات والمكروهات في التجارات وفي سائر المعاملات، وهذا من فقه وذكاء محمد رحمة الله عليه.
يروى أن مسروقا عليه دين ثقيل وكان على أخيه خيثمة دين فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم.
وقال مطرف ابن عبد الله لبعض إخوانه:
( يا أبا فلان إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني وأكتبها في رقعة فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال).
إذا أعسرتُ لم يعلم رفيقي …… وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي ……. ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت بماء وجهي ……. لكنت إلى العلاء سهل الطريق
عن رباح ابن الجراح قال:
( جاء فتح الموصلي إلى منزل صديق له يقال له عيسى التمار فلم يجده، فقال للخادم أخرجي لي كيس أخي فأخرجته فأخذ منه درهمين، وجاء عيسى فأخبرته الخادم، فقال إن كنت صادقة فأنتي حرة، فنظر فإذا هي صادقة فعتقت).
وعن جميل أبن مرة قال:
(مستنا حاجة شديدة، فكان مورق العجلي يأتينا بالصرة فيقول أمسكوا هذه لي عندكم، ثم يمضي غير بعيد فيقول إن احتجتم إليها فأنفقوها)
وقال سفيان ابن عيينه سمعت مساورا الوراق يقول:
( ما كنت لأقول لرجل إني أحبك في الله فأمنعه شيء من الدنيا). مواقف اغرب من الخيال لكنها مكارم الأخلاق عند سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وصدق الأخوة والمحبة في الله.
نسأل الله الكريم من فضله، ونسأل الله عز وجل حسن التأسي بهم رضوان الله عليهم.
ومن مظاهر الازدواجية أيضا أن ترى بعض الشباب يعجبك حسن مظهره، ويجذبك سحر عطره، وتصفيف شعره، ولولا الحياء لأطنبت في الوصف مما يرى ويشاهد على بعض شبابنا هذه الأيام من حرص على المظاهر والأشكال، ومع ذلك انحراف في السلوك والأخلاق فلا مانع لديه أن يكذب وأن يلعن ويشتم وربما يزني ويسرق أو يغش ويخدع، لا مانع لديه أن يتخلى عن دينه وأخلاقه من أجل شهوة، فأفسد المسكين جمال الظاهر وجمال الباطن.
أيها الشاب ليس الإنسان إنسانا بجسمه وصورته لا والله، ولا بثيابه ومظهره، بل هو إنسان بروحه وعقله وخُلقه وخَلقِه،
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ……. أتعبت نفسك في ما فيه خسرانُ
أقبل على النفس وأستكمل فضائلها …….فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
أيها الشاب، هل ينفه الفتيان حسن وجههم إذا كانت الأخلاق غير حسان، إن في قلبك فطرة الخير ففتش عنها وأشعل جذوة الخير فيها.
أيها الشاب، إن من تمام سعادتنا أن نتمتع بمباهج الحياة وشهواتها، لكن في حدود الشرع:
( وأبتغي فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنسى نصيبك من الدنيا).
أيها الشاب، كن رحلاً رجلَه في الثرى وهامة همتَه في الثريا، وتجمل بمكارم الأخلاق والآداب فإنها زينة الرجال.
ومن الازدواجية في الأخلاق أولئك الذين نرى عليهم أثر الصلاح وسيما الخير:
ثم نراهم في أفعالهم وتصرفاتهم يناقضون تلك السمات والآثار، حتى أصبحوا فتنة لغيرهم فأنت لا تسيء لنفسك فقط، بل لنفسك ولغيرك بل وربما لدينك، فإن من يرى سوء الأخلاق منك فسيقول هذه أخلاق الصالحين، وهذا هو الالتزام الذي يذكرون، فعلى هذا وأمثاله أن يراجعوا صلاحهم فقد لا يكون لهم من الصلاح إلا الاسم والرسم.
مدحوا عند القيل ابن عياض رجلا وقالوا إنه لا يأكل الخبيص، فقال رحمه الله:
(وما ترك أكل الخبيص؟ انظروا كيف صلته للرحم، انظروا كيف كضمه للغيظ، انظروا كيف عطفه على الجار والأرملة والمسكين، انظروا كيف حسن خلقه مع إخوانه) انتهى كلامه.
قلي بربك أيها القدوة هل الاستقامة مظهر فقط؟ أم هي حسن تعامل مع فئة من الناس فقط؟
أم أنها سلوك منك وحسن تعامل مع الناس في كل شيء وفي جميع الأحوال، ففي الحديث الصحيح:
( أعظم ما يدخل الناس الجنة تقوى الناس وحسن الخلق) أخرجه الترمذي وابن ماجة.
قال ابن القيم في الفوائد :
(جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق في هذا الحديث لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقِه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته) انتهى كلامه رحمه الله.
ويجب التنبه هنا لأمر مهم اختلط على كثير من الناس إما جهلا وهو الغالب أو بقصد من قلب في دخن ودغل وهو قليل جدا إن شاء الله.
أيها الأخوة إن تخلى المسلمون عن أخلاقهم ومبادئ عقيدتهم فليس معنى هذا أن نتهم الإسلام، أو نتردد بالالتزام بتعاليمه وشرائعه، وإلا فما معنى أن يحكم أناس مسلمون على الإسلام وعلى أهل الصدق منه بالغلو والتطرف والغلظة والفظاظة وسوء الخلق لمجرد أن منتسبا للإسلام أخطئ في تصرفه أو قوله أو تلبس لباس الصادقين من المسلمين؟
إن من أشنع أنواع الظلم أن يؤاخذ الإنسانُ بخطأ غيره فإن الله عز وجل يقول:
(ولا تزر وازرة وزر أخرى )،
أين الإنصاف وأين العدل ؟
والله عز وجل يقول:
(ولا يجرمنكم شنأن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى).
لماذا نتسرع بالحكم على الجميع ونعمم الأخطاء لمجرد أخطاء فردية؟
أين هؤلاء الشانئون من مئات وآلاف من المسلمين والمسلمات ممن نبلت أخلاقهم وعزت نفوسهم.
إنني أعرف وتعرف وأسمع وتسمع وأرى وترى أعدادا ليست بالقليلة ممن ملكوا القلوب بجمال ألفاظهم وأسروا النفوس بحسن أفعالهم، قلوب صافية وأيد حانية وألسن عفيفة، علم وعمل وحب للدين والوطن.
فلماذا لا يذكر هؤلاء ويشهر أمرهم ويتحدث عن نبلهم؟ لماذا ننظر بعين واحدة ونقع على الجروح فقط؟
انظر لنفسك أيها الحبيب، أيها الأخ الشاب وأنت تشكو من هؤلاء، ألست مسلما؟
أولست تخطئ؟ ألست تزل؟
فلربما شكا منك الناس، فأنت تشكو وأنت تُشكى.
ولكن ما أجمل أن بعذر بعضنا بعضا، وأن نعفوا عن الزلات ونستر السيئات ونشهر الحسنات، تناصح وتغافر يطفئ نار الفرقة والاختلاف.
عامل الناس جميعا على أنهم بشر يصيبون ويخطئون، غُض الطرف وتغافل وأصبر فليس الغبي بسيد في قومه…….لكن سيد قومه المتغابي.
ولك أن تسرح بخيالك لترى المجتمع يعيش بهذه المعاني الجميلة فهي من أعظم مكارم الأخلاق، فإن أبيت فأتهم ذلك الشخص ولا تعمم وأتقي الله فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.
* أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
مكارم الأخلاق تشعر الجميع أنك تحبهم بل كل واحد يشعر أنه أحب الناس إلى قلبك، فهل تستطيع هذا، إنك تملك القلوب بأيسر الطرق وأفضلها، هكذا كانت أخلاق قدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم.
فعن عمرو ابن العاص قال:
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه علي حتى ظننت أني خير القوم فقلت يا رسول الله أنا خير أو أبو بكر؟ فقال أبو بكر، فقلت يا رسول الله أنا خير أم عمر؟ فقال عمر، فقلت يا رسول الله أنا خير أم عثمان؟ فقال عثمان. يقول عمرو فلما سألت رسول الله فصدقني فلوددت أني لم أكن سألته) كما في الشمائل لترمذي.
إذا فعمرو ابن العاص ظن أنه أحب الناس وأقرب الناس لقلب رسول صلى الله عليه وسلم.
أخي الحبيب لعلك تسال كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم كسب القلوب إلى هذا الحد؟ بل كسب حتى قلوب أعدائه.
إليك شيئا من شمائله وأخلاقه بإيجاز، رزقني الله وإياك حسن الإقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم.
كان أشد الناس حياء، (أنا أشد الناس حياء).
لا يثبت بصره على أحد، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذرين إليه،
يمزح ولا يقول إلا حقا، يضحك من غير قهقهة، ترفع الأصوات عليه فيصبر،
لا يحتقر مسكينا لفقره، ما ضرب بيده أحدا قط إلا في سبيل الله،
وما أنتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله،
ما كان يجزي بالسيئةَ السيئة ولكن يعفو ويصفح،
كان يبدأ من لقيه بالسلام، كان إذا لقي أحدا من أصحابه بدأه بالمصافحة ثم أخذ بيده فشابكه ثم شد قبضته عليها،
كان يجلس حيث انتهى به المجلس، كان يكرم من يدخل عليه حتى أنه ربما بسط ثوبه ليجلس عليه، كان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، فإن أبا أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل،
كان يعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه وسمعه وبصره وحديثه،
كان يدعو أصحابه بكناهم إكراما لهم واستمالة لقلوبهم،
كان أبعد الناس غضبا وأسرعهم رضاء،
كان أرأف الناس بالناس وخير الناس للناس، فعن أنس رضي الله عنه:
( أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له إن لي إليك حاجة، فقال أجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك) متفق عليه.
وبكلمة جامعة مانعة كان خلقه القرآن، ولذلك أثنى الله عليه فقال:
(وإنك لعلى خلق عظيم).
إذا فمن أراد أن يرى هدي هذا الدين واقعا يعاش فلينظر في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم،وليدرسها دراسة فهم وتدبر بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، يكفي أن كل أحد يقول يوم القيامة نفسي نفسي وهو يقول أمتي أمتي.
يا من يذكرني بعهدِ أحبتي…… طاب الحديثُ بذكرهم ويطيبُ
أعد الحديثَ علي من جنباته…… إن الحديثَ عن الحبيبِ حبيبُ
ملئ الضلوعَ وفاض عن أجنابها……. قلبُ إذا ذكرَ الحبيبُ يذوبُ
ما زال يخفقُ ضاربا بجناحه……… يا ليت شعري هل تطيرُ قلوبُ
* خلاصة الدرس بهذه النقاط:
- ليس مراد المسلم الصادق من حسن تعامله وأخلاقه ولإحسان للناس هو كسب القلوب أو رضاء المخلوقين، أو انتزاع صيحات الإعجاب والمدح والثناء منهم، فمن القبيح أن نتحلى بالأخلاق من أجل كسب القلوب فقط، فلا يظن ظان عند سماعه لعنوان الدرس هذا الظن.
بل هدفنا دائما هو رضاء الله، والله هو الذي أنزل القرآن وأرسل الوحي اللذان منهما نستمد الأخلاق والآداب، ومن أرضى الله، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس.
فتقدير الناس وحبهم له حاصل بحرصه على رضاء الله وإخلاص الأمر له، وقليلون أولئك الذين يحرصون على كسب القلوب لنشر المحبة والإخاء وجمعها على حب الله، وكثير أولئك الذين يحرصون على كسب القلوب ومودة الآخرين من أجل مصالح الدنيا والشفاعات وتسهيل المهام، وهذا النوع من الكسب تبتذل فيه النفوس، ويذبح الحياء وربما يباع الدين بالدنيا من أجله، نعوذ بالله من حال هؤلاء.
- إن لم تكن الأخلاق أصيلة في نفسك تحرص على اكتسابها والتحلي بها وتداوم على تزكية النفس وتهذيبها، ولن تتصنع الأخلاق أبدا فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وإن نجحت مرة أو مرتين فسرعان ما تسفر الأحداث والمواقف عن زيوف النفس وتصنعها وما تخفيه من نوايا ومأرب وأغراض، أما بحثنا عن طريق القلوب فمن أجل علام الغيوب من عفو وصفح ونفع وصبر وطلاقة وجه وطيب وطيبِ كلام ليصبح البعيد قريبا والعدو صديقا فيحبك الناس ومن أحبه الناس ملك قلوبهم وأثر في أفعالهم وإلا فكيف نريد أن يقبل الناس منا وفي قلوبهم لنا جفوة وف نفوسهم نفره.
- أيها الأخوة والأخوات، لا يمكننا التأثير على نفوس الناس أبدا وكسب قلوبهم إلا بتلمس الخير فيهم، والحرص على مكارم الأخلاق معهم، إذا لنملك القلوب لتحبنا القلوب وحينها سترون النتيجة والتأثير فإن من أحبه الناس ملك قلوبهم، وليس معنى هذا أن نترك النصح للآخرين والإنكار عليهم ولا أن نجاملهم في معاصيهم وأخطائهم.
معاشر الأخوة، اسمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
(إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخُلق) أخرجه البزار بسند حسن من حديث أبي هريرة.
- قد لا يستطيع أحدنا أن يملك قلوب الناس بماله ولا بجاهه، وإن تملق الناس له وتصنعوا، فربما أن قلوبهم تمقته، بينما أنت يا صاحب الأخلاق تملك الناس بحسن الأخلاق، يحبك الناس، يرفعونك ويقدرونك، فقط وخالق الناس بخلقٍ حسن كما وصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم معاذ أبن جبل.
قال ابن المبارك (والخُلق الحسن هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى)
وقال الإمام أحمد ( الخُلق الحسن أن لا تغضب ولا تحقد)
وقيل (حسن الخُلق بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى)
وقيل ( هو بذل الجميل وكف القبيح)
وقيل (هو التحلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل)
ويكفي في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم :
(البر حسن الخلق) كما في صحيح مسلم.
قال ابن القيم رحمه الله (وهذا يدل على أن حسن الخُلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام ولهذا قابله بالإثم في الحديث) انتهى كلامه.
- لا تغتر بحسن أخلاقك في الرخاء، بل جرب نفسك في أوقات الشدة والغضب، وكل الأحوال التي يحتاج فيها للأخلاق فعلا، فالإيثار عند قلة الزاد، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة، أما في الرخاء فلا فخر ولا فضل.
- انظر للناس فما كرهته فيهم من أخلاق فأبتعد عنه، فإنهم يكرهون منك ما تكرهه منهم.
- أسال نفسك هل أنت كالنحلة لا تقع إلا على الورود والأزهار، أم أنت كالذباب لا يقع إلا على الأوساخ والأقذار.
- مدار الموضوع كله في آية في كتاب الله تعالى وهي قاعدة في فن التعامل والإحسان للخلق هي قوله تعالى:
( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
لكن هل كل أحد يوفق لهذا؟ لا فإن الله تعالى يقول:
( وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)
وقد جمع الله مكارم الأخلاق في آية أخرى فقال:
( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين).
- الأخلاق الإسلامية معك في كل زمان ومكان، مع ربك ومع الناس وفي بيتك، وفي عملك، وفي البيع والشراء، وفي الجلوة والخلوة، مع الكبير والصغير، والرئيس والمرؤوس، فهي أصيلة في نفسك في كل الأحوال ومع كل الأشخاص في كل مكان.
- حسن الخُلق أركانه أربعة، الصبر والعفة والشجاعة والعدل. وسوء الخلق أركانه أربعة الجهل والظلم والشهوة والغضب.
- ونحن نطالب الناس بمكارم الأخلاق لا ننسى أنهم بشر ومهما جهدوا فلا بد من الهنات والغفلات، فلا نطالب بالمثاليات، خاصة في مثل هذه الأوقات، ولكن أنظر إلى نفسك وعامل الناس كما تحب أن يعاملوك.
يقول أبن المقفع في الأدب الصغير هذه الجملة الجميلة:
( وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساوئها في الدين وفي الأخلاق وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخلة والخلتين والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر، فكلما أصلح شيئا محاه، وكلما نظر إلى محو أستبشر، وكل ما نظر إلى ثابت أكتئب) انتهى كلامه.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسِنها إلا أنت، وأصرف عنا سيئها لا يصرفُ عنا سيئها إلا أنت، اللهم إنك ترى مكانَنا وتسمع كلامَنا وتعلم سرنا وعلانيتنا، ولا يخفى عليك شيءُ من أمرنا، نحن البؤساء الفقراء المستغيثون المستجيرون، والوجلون المشفقون، المقرون المعترفون، نسألُك مسالةَ المساكين، ونبتهل إليك ابتهال المذنبين وندعوك دعاء الخائفين، دعاء من خشعت لك رقابُهم، وذلت لك أجسادهم، وفاضت لك عيونهم، ورغمت لك أنوفهم.
اللهم أصلح فساد قلوبِنا اللهم اصلح فساد قلوبنا وأرحم ضعفنا وحسن أخلاقنا
اللهم إنا لأنفسِنا ظالمون، ومن كثرةِ ذنوبِنا خائفون، ولا يغفر الذنوب إلا أنت يا أرحم الراحمين فأغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم أجمع كلمة المسلمين على التوحيد يا أرحم الراحمين
اللهم آلف بين قلوبهم……………
| | |
13 - 9 - 2014, 02:13 PM
|
#74 |    
رد: مدونة المحاضرات والخطب الاسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يُطعم ولا يطعم، منّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا.
الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصّر من العمى، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا سامعا لكل شكوى.
يا خالق الأكوان أنت المرتجى...... وإليك وحدك ترتقي صلواتي
يا خالقي ماذا أقول وأنت تعلمـــني وتعلم حاجتي وشكاتــي
يا خالقي ماذا أقول وأنت........... مطلع على شكواي والأناتي
اللهم يا موضع كل شكوى، ويا سمع كل نجوى، ويا شاهد كل بلوى، يا عالم كل خفية، و يا كاشف كل بلية، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاء من أشدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت.
يا أرحم الراحمين أكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.
يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وأرحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذي الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.
معاشر الأخوة والأخوات:
إن في تقلب الدهر عجائب، وفي تغير الأحوال مواعظ، توالت العقبات، وتكاثرت النكبات، وطغت الماديات على كثير من الخلق فتنكروا لربهم ووهنت صلتهم به.
اعتمدوا على الأسباب المادية البحتة، فسادة موجات القلق والاضطراب، والضعف والهوان، وعم الهلع والخوف من المستقبل، خافوا على المستقبل، تخلوا عن ربهم فتخلى الله عنهم:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
جميعُ الخلق مفتقرون إلى الله، مفتقرون إلى الله في كل شؤونِهم وأحوالِهم، وفي كلِ كبيرةٍ وصغيره، وفي هذا العصرُ تعلقَ الناسُ بالناسِ، وشكا الناسُ إلى الناس، ولا بئسَ أن يُستعانُ بالناس في ما يقدرون عليه، لكن أن يكونَ المُعتمَدُ عليهم، والسؤال إليهم، والتعلقُ بهم فهذا هو الهلاكُ بعينه، فإن من تعلق بشيٍ وكلَ إليه.
نعتمدُ على أنفسِنا وذكائِنا بكل غرورٍ وعجب وصلف، أما أن نسأل اللهَ العونَ والتوفيق، ونلحَ عليه بالدعاء، ونحرِصِ على دوام الصلة باللهِ في كلِ الأشياء، وفي الشدةِ والرخاء، فهذا أخرُ ما يفكرُ به بعض الناس.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي.........ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي...........وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا......فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا.....فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا.....فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي......فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل ؟
هذا يشكُ علةً وسقما.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين ،وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
أيها الأخوة، السؤال الذي يجب أن يكون، هؤلاء إلى من يشكون، و أيديَهم إلى من يمدون؟
يجيبك واقعُ الحال على بشرٍ مثلُهم يترددون، وللعبيدِ يتملقون، يسألون ويلحون وفي المديح والثناء يتقلبون، وربما على السحرة والكهنة يتهافتون.
نعم والله تألمنا شكاوي المستضعفين، وزفراتُ المساكين، وصرخاتُ المنكوبين، وتدمعُ أعُينَنا - يعلم الله- لأهات المتوجعين، وأناتُ المظلومين، وانكسارِ الملذوعين، لكن أليس إلى اللهِ وحدَه المشتكى ؟
أين الإيمان بالله ؟ أين التوكلُ على الله ؟ أين الثقةُ و اليقينُ بالله ؟
وإذا عرتك بليةًُ فأصبر لها.......صبرُ الكريمِ فإنه بك أرحمُ
وإذا شكوتَ إلى ابنِ أدم إنما.....تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ
ألم نسمع عن أناس كانوا يشكون إلى الله حتى انقطاع سير نعلهم، نعم حتى سير النعل كانوا يسألونه الله، بل كانوا يسألون الله حتى الملح.
يا أصحابَ الحاجات.
أيها المرضى.
أيها المدينون.
أيها المكروب والمظلوم.
أيها المُعسرُ والمهموم.
أيها الفقيرُ والمحروم.
يا من يبحث عن السعادة الزوجية.
يا من يشكو العقم ويبحث عن الذرية.
يا من يريد التوفيق بالدراسة والوظيفة.
يا من يهتم لأمر المسلمين.
يا كلُ محتاج، يا من ضاقت عليه الأرضُ بما رحبت.
لماذا لا نشكوُ إلى اللهِ أمرنا وهو القائل: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
لماذا لا نرفعُ أكفَ الضراعة إلى الله وهو القائل: ( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ).
لماذا ضُعفُ الصلةِ بالله، وقلةُ الاعتمادِ على الله، وهو القائل: ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ). لولا دعاؤكم.
أيها المؤمنون، أيها المسلمون يا أصحابَ الحاجات، ألم نقرأ في القرآنِ قول الحق عز وجل: ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) لماذا ؟ ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
فأين نحن من الشكوى لله، أين نحن من الإلحاح والتضرعِ الله؟
سبحان الله، ألسنا بحاجةٍ إلى ربنا؟
أنعتمدُ على قوتنا وحولِنا، والله ثم واللهِ لا حول لنا ولا قوةَ إلا بالله.
واللهِ لا شفاء إلا بيد الله، ولا كاشفَ للبلوى إلا الله، لا توفيق ولا فلاح ولا سعادةَ ولا نجاح إلا من الله.
العجيبُ والغريب أيها الأخوةُ أن كلَ مسلمٍ يعلمُ ذلك، ويعترفُ بهذا بل ويقسمُ على هذا، فلماذا إذاً تتعلقُ القلوبُ بالضعفاءُ العاجزين ؟
ولماذا نشكو إلى الناسِ ونلجأَ للمخلوقين ؟
سل الله ربك ما عنده......... ولا تسأل الناس ما عندهم
ولا تبتغي من سواه الغنى..... وكن عبده لا تكن عبدهم
فمن يا إذا بُليت سلاك أحبابك، وهجرك أصحابك.
يا من نزلت بها نازلة، أو حلت به كارثة.
يا من بليت بمصيبةٍ أو بلاءٍ، ارفع يديك إلى السماء وأكثر الدمعَ والبكاء، وألحَ على اللهِ بالدعاء وقل:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
إذا استعنت فأستعن بالله، وإذا سألت فأسأل الله، وقل يا سامعاً لكل شكوى.
توكل على الله وحده، وأعلن بصدقٍ أنك عبده واسجد لله بخشوع، وردد بصوتٍ مسموع:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
أنت الملاذُ إذا ما أزمةٌ شملت........وأنت ملجأُ من ضاقت بهِ الحيلُ
أنتَ المنادى به في كلِ حادثِةٍ.......أنت الإلهُ وأنت الذخرُ والأملُ
أنت الرجاءُ لمن سُدت مذاهبهُ......أنت الدليلُ لمن ضلت بهِ السبلُ
إنا قصدناك والآمال واقعةٌ.........عليكَ والكلُ ملهوفُ ومبتهلُ
إن الأنبياء والرسلَ، وهم خيرُ الخلق، وأحبُ الناسَ إلى الله، نزل بهم البلاء واشتدَ بهم الكرب، فماذا فعلوا وإلى من لجئوا.
أخي الحبيب، أختصرُ لك الإجابة، إنه التضرعُ والدعاء، والافتقارُ لربِ الأرضِ والسماء، إنها الشكايةُ لله وحُسنُ الصلةِ بالله.
هذا نوحٌ عليه السلام يشكو أمرَه إلى الله ويلجأُ لمولاه:
قال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
كانتِ المناداة، كانتِ المناجاة، فكانتِ الإجابةُ من الرحمن الرحيم.
وقال تعالى: ( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
وقال عز من قائل: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ).
هذا أيوبُ عليه السلام، ابتلاهُ اللهُ بالمرضِ ثمانيةَ عشر عاماً حتى أن الناسُ ملوا زيارته لطولِ المدة، فلم يبقى معه إلا رجلانِ من إخوانهِ يزورانه، لكنه لم ييئس عليه السلام، بل صبرَ واحتسب، وأثنى الله عليه: ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أواب أي رجاعٌ منيبٌ إلى ربه، ظل على صلتِه بربِه وثقتِه به، ورضِاهُ بما قُسم الله له، توجه إلى ربه بالشكوى ليرفع عنه الضراء والبلوى قال تعالىوَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
قال الحقُ عز وجل ، العليمُ البصيرُ بعباده، الرحمنُ الرحيم قالَ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).
هذا يونسُ عليه السلام، رفع الشكاية لله فلم ينادي ولم يناجي إلا الله قال تعالى:
( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
وزكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ). ماذا كانت النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). الذين يشكون العقم وقلة الولد.
إذا لماذا استجاب الله دعاه؟
لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وكانوا لا يملون الدعاء، بل كان القلب متصل متعلق بالله، لذلك قال الله عنهم: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
خاشعين متذللين، معترفين بالتقصير، فالشكاية تخرج من القلب قبل اللسان.
يعقوبُ عليه السلام قال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، انظروا لليقين، انظروا للمعرفة برب العالمين: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، فاستجاب اللهُ دعائَه وشكواه وردَ عليه يوسفَ وأخاه.
وهذا يوسف عليه السلام ابتلاه الله بكيد النساء، فلجأ إلى الله، وشكى إليه ودعاه فقال:
( وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، إنه التضرع والدعاء، والافتقار لرب الأرض والسماء، إنها الشكاية لله، وحسن الصلة بالله.
(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وأخبر الله عن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ). استغاثة لجاءة إلى الله، شكوى وصلة بالله سبحانه وتعالى.
وهكذا أيها الأحبةِ حينما نستعرضُ حياةَ الرسلِ جميعاً، كما قصها علينا القرآن الكريم، نرى أن الابتلاء والامتحان كان مادتُها وماُئها، وأن الصبرَ وحسنُ الصلةِ بالله ودوام الالتجاءِ وكثرةُ الدعاءِ وحلاوة الشكوى كان قوَمُها.
وما أشرنا إليه إنما هي نماذج من الاستجابة للدعاء، ومن في كتب السير والتفاسير وقف على شدةِ البلاء الذي أصاب الأنبياء، وعلم أن الاستجابةَ جاءت بعد إلحاحٍ ودعاء، واستغاثةٍ ونداء.
إنها آياتُ بينات وبراهينُ واضحات، تقول بل وتعلن أن من توكلَ واعتمد على الله، وأحسن الصلة بمولاه استجاب الله دعاه، وحفظه ورعاه، فإن لم يكن ذلك في الدنيا كان في الآخرة: ( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ).
أنها صفحاتٌ من الابتلاء والصبر معروضةٌ للبشرية، لتسجل أن لا اعتماد إلا على الله، وان لا فارجَ للهمِ ولا كاشفَ للبلوى إلا الله.
هذا هو طريق الاستعلاء أن تنظرَ إلى السماء، وأن نلحُ بالدعاء، لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوةِ والسعادة، وأنك تأوي إلى ركنٍ شديد.
أما الشكوى إلى الناس، والنظرِ إلى ما في أيدي الناس فيشعرك بالضعف والذل والإهانةِ والتبعية.
يا أهل التوحيد، أليس هذا أصل من أصول التوحيد ؟
إن من أصول التوحيد أن تتعلق القلوبُ بخالقها في وقت الشدةِ والرخاء والخوفِ والأمن، والمرضِ والصحة، وفي كل حالٍ وزمان.
وما نراه اليومَ من تعلقِ القلوب بالمخلوقين، وبالأسباب وحدها دون اللجأ إلى الله، لهو نذيرُ خطرٍ يزعزعُ عقيدةِ التوحيدِ في النفوس.
أيها الأحبة: إن الشكوى لله، والتضرعَ إلى الله، وإظهارَ الحاجة إليه، ولاعتراف بالافتقار إليه من أعظمِ عرى الإيمانِ وثوابتِ التوحيد، وبرهانُ ذلك الدعاء والإلحاح بالسؤال، والثقةُ واليقينُ بالله في كلِ حال.
ولقد زخرت كتبُ السنةِ بأنواعٍ من الدعاءِ تجعلُ المسلمَ على صلةٍ بربه، وفي حرزٍ من عدوه، يقضي أمره ويكفي همه.
في كلِ مناسبةٍ دعا، في اليقظةِ والمنام، والحركة والسكون، قياماً وقعودا، وعلى الجنوب، ابتهالٌ وتضرعٌ في كل ما أهم العبد، وهل إلى غيرِ الله مفر، أم هل إلى غيره ملاذ.
ففي المرض مثلا الأحاديث كثيرة، والأدعية مستفيضة، إليك على سبيل المثال ما أحرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه المعوذات، وينفث، فلما أشتد وجعه كنت اقرأ عليه وأمسح عليه رجاء بركتها.
وأخرج البخاري ومسلم أيضا من حديث عائشة قالت:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس رب الناس، وأشفي أنت الشافي لا شفاء إلا شفائك، شفاء لا يغادر سقما، أي لا يترك سقما.
وفي صحيح مسلم عن عثمان أبن أبي العاص رضي الله تعالى عنه:
أنه شكى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): ضع يدك على الذي تألم من جسدك.
انظروا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قدوتنا وحبيبنا يربي الناس، ويربي أصحابه على الاعتماد واللجاءة إلى الله، ضع يدك، الإرشاد أولا لله، التعلق أولا بالله، لم يرشده أولا لطبيب حاذق ولا بأس بهذا، لكن التعلق بالله يأتي أولا.
ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله، بسم الله ثم يقول سبعا أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر.
وفي رواية أمسحه بيمينك سبع مرات، وفي رواية قال عثمان فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
سبحان الله، اسمعوا لحسن الصلة بالله، والتوكل على الله، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
أيها المريض، أعلم أن من أعظم أسباب الشفاء التداوي بالرقى الشرعية من القرآن والأدعية النبوية، ولها أثر عجيب في شفاء المريض وزوال علته، لكنها تريد قلبا صادقا وذلا وخضوعا لله.
رددها أنت بلسانك، فرقيتك لنفسك أفضل وأنجح، فأنت المريض وأنت صاحب الحاجة، وأنت المضطر، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، وما حك جلدك مثل ظفرك، فتوكل على الله بصدق وألح عليه بدون ملل، وأظهر ضعفك وعجزك، وحالك وفقرك إليه، وستجد النتيجة العجيبة إن شاء الله ثقة بالله.
فإلى كل مريض مهما كان مرضه أقول:
شفاك الله وعافاك، اعلم أن الأمراض من جملة ما يبتلي الله به عباده، والله عز وجل لا يقضي شيئا إلا وفيه الخير والرحمة لعباده، وربما كان مرضك لحكمة خفيت عليك، أو خفيت على عقلك البشري الضعيف، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
أيها الحبيب شفاك الله، هل علمت أن للأمراض والأسقام فوائد وحكم أشار أبن القيم إلى أنه أحصاها فزادت على مائة فائدة (انظر كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل صفحة 525).
أيها المسلم أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك وأن يعافيك، هل سمعت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.
وهل سمعت أنها (صلى الله عليه وآله وسلم): زار أم العلاء وهي مريضة فقال الله ابشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة.
قال أبن عبد البر رحمه الله: الذنوب تكفرها المصائب والآلام، والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه.
والأحاديث والآثار في هذا مشهورة ليس هذا مقام بسطها، لكن المراد هنا أننا نرى حال بعض الناس إذا مرض فهو يفعل كل الأسباب المادية من ذهاب للأطباء وأخذ للدواء وبذل للأموال وسفر للقريب والبعيد، ولا شك أن هذا مشروع محمود، ولكن الأمر الغريب أن يطرق كل الأبواب وينسى باب مسبب الأسباب، بل ربما لجأ للسحرة والمشعوذين، نعوذ بالله من حال الشرك والمشركين.
ألم يقرأ هذا وأمثاله في القرآن وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
أيها المريض أعلم أن الشافي هو الله، ولا شفاء إلا شفائه.
أيها المريض، بل يا كل مصاب أيا كانت مصيبته، هل سألت نفسك لماذا ابتلاك الله بهذا المرض، أو بهذه المصيبة ؟ ربما لخير كثير ولحكم لا تعلمها ولكن الله يعلمها،ألم يخطر ببالك أنه أصابك بهذا البلاء ليسمع صوتك وأنت تدعوه، ويرى فقرك وأنت ترجوه، فمن فوائد المصائب استخراج مكنون عبودية الدعاء.
قال أحدهم: سبحان من استخرج الدعاء بالبلاء.
وفي الأثر أن الله ابتلى عبدا صالحا من عباده وقال لملائكته لأسمع صوته.
يعني بالدعاء والإلحاح.
أيها المريض، المرض يريك فقرك وحاجتك إلى الله، وأنه لا غنى لك عنه طرفة عين، فيتعلق قلبك بالله، وتقبل عليه بعد أن كنت غافلا عنه، وصدق من قال:
فربما صحت الأجسام بالعلل.
فأرفع يديك وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بذلك وضعفك.
في رواية عن سعيد ابن عنبسة قال: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به إذ رجعت حصاة منه عليه فصارت في أذنه، فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تألمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئ يقرأ: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ).
فقال الرجل: يا رب أنت المجيب وأنا المضطر فأكشف عني ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه في الحال.
لا تعجب، إن ربي لسميع الدعاء، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
أيها المريض، إياك وسوء الظن بالله إن طال بك المرض، فتعتقد أن الله أراد بك سوء، أو أنه لا يريد معافاتك، أو أنه ظالم لك، فإنك إن ظننت ذلك فإنك على خطر عظيم.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله تعالى يقول أنا عند ظني عبد بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله.
يعني ما كان في ظنه فإني فاعله به، فأحسن الظن بالله تجد خيرا إن شاء الله.
لا تجزعن إذا نالتك موجعة.............. واضرع إلى الله يسرع نحوك الفرج
ثم استعن بجميل الصبر محتسبا............ فصبح يسرك بعد العسر ينسلج
فسوف يدلج عنك الهم مرتحلا........... وإن أقام قليلا سوف يدّلج
هذا في المرض، وأطلت فيه لكثرة المرضى، وحاجة الناس إلى مثل هذه التوجيهات، وهي تحتاج إلى دروس ومحاضرات، ولكن حسبي ما ذكرته الآن لأن الموضوع عام في المصائب والآلام.
ومن المصائب والآلام التي يحتاج الناس فيها إلى الشكوى إلى الله تراكم الديون وكثرة المعسرين.
كم من مدين عجز عن الوفاء، وكم من معسر يعيش في شقاء، هم في الليل وذل في النهار، أحزان وآلام لا يغمض في منام، ولا يهنأ في طعام، طريد للغرماء، أو مع السجناء، صبية صغار، وبيت للأجار، وزوجة مسكينة لا تدري أتطرق أبواب المحسنين أو تسلك طرق الفاسقين.
هذه رسالة مؤلمة من زوجة إلى زوجها في السجن بسبب الديون جاء فيها:
لم أتمتع معك في حياتنا الزوجية إلا فترة من الزمن حتى غيبوك في غياهب السجون، كم سنة غبت عني لا أدري ماذا فعل الله بك، ولا أدري عنك أحي فترجى أم ميت فتنعى، ليتك ترى حالي وحال أولادك، ليتك ترى حال صغارك، لست أدري هل أخون أمانة الله وأمانتك وأطلب الرزق لهؤلاء بطرق محرمة وأنا في ذمتك وعهدك، أم أطلب الطلاق ويضيع أولادك.. إلى أخر الرسالة من كتاب إلى الدائنين والمدينين.
وأقول أيها الأحبة، تصوروا حال هذا الزوج كيف يكون وهو يقرأ هذه الكلمات، ديون وسجون وهموم وأولاد، ذل وخضوع للناس.
وأسمعوا لهذا الرجل وهو يشكو حاله ويقول: أنا رجل سجين علي مبلغ من المال، وصار لي في السجن أكثر من سنة ونصف، ولا يقبل خصمي كفيلا، وأنا معسر وصاحب عائلة فهل يجوز سجني؟
إلى هؤلاء وأمثالهم أقول: لماذا طرقتم الأبواب كلها ونسيتم باب من يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا خائبتين. وسنده جيد.
قال السري السبطي: كن مثل الصبي إذا اشتهى على أبويه شهوة فلم يمكناه قعد يبكي عليهما، فكن أنت مثله إذا سألت ربك ولم يعطك، فأقعد وأبكي عليه.
ولرب نازلة يضيق بها الفتى............... ذرعا وعند الله منها مخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها.......... فرجت وكان يظنها لا تفرج
ومن الأدعية في قضاء الدين ما أخرجه أبو داوود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد ذات يوم فرأى فيه رجلا من الأنصار يقال له أبو أمامه، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة، قال هموم لزمتني، وديون يا رسول الله. قال (صلى الله عليه وآله وسلم) أفلا أعلمك كلاما إذ قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك، قلت بلى يا رسول الله، قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
قال ففعلت ذلك فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى عني ديني.
يعلق القلوب بالله صلوات الله وسلامه عليه.
وروى البيهقي في فضائل الأعمال عن حماد ابن سلمة أن عاصما ابن أبي إسحاق شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة -أ ي حاجة وفاقة - فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الصحراء ثم وضعت وجهي على الأرض وقلت يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سمع الأصوات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضل عن من سواك. يلح على الله بهذا الدعاء.
قال فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعت بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون دينارا وجوهرا ملفوفا بقطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم، وأبقيت الدنانير فاشتريت منها عقارا وحمدت الله تعالى على ذلك.
لا نعجب أيها الأخوة، إن ربي لسميع الدعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ومن الأدعية عند الهم والقلق ما أخرجه أحمد في المسند من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك، ابن عبدك أبن أمتك نصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضائك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزن وأبدله مكانه فرجا، وفي رواية فرحا، قال فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها، قال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها.
أيها الأخوة، إن الإنسان منا ضعيف، ضعيف فكيف إذا اجتمعت عليه الهموم والأحزان، وشواغل الدنيا ومشاكلها فزادته ضعفا، وجعلته فريسة للهم والقلق والتمزق النفسي.
انظروا للعيادات النفسية، وكثرت المراجعين لها، شباب وفتيات في أعمار الزهور، أين هؤلاء من الاعتصام بالله، والاتصال والشكوى للذي قدّر الهموم والغموم وقضى بالمصائب والأحزان.
يتصل به متذللا معترفا بذنبه طارقا بابه مستعينا به مستيقنا بأنه هو القادر على كشفها دون سواه، وما سواه إلا أسباب هو الذي يقدرها ويهيئها للعبد.
إن الله تعالى يقول: ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً).
قال أبن القيم في طريق الهجرتين: فإن الإنسان ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة ضعيف الصبر والآفات إليه مع هذا الضعف أسرع من السيل في صيب الحدور، فبالاضطرار لابد له من حافظ معين يقويـه ويعينـه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه.
إذا فلنتعلم هذا الحديث كما أوصى (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن فيه خضوعا وخشوعا لله، فيه اعترافا بالعبودية والذل لله، فيه توسل واستغاثة بجميع أسماء الله ما يُغرف منها وما لا يعرف، ما كتب وما أخفى.
وأبشر أخي الحبيب فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج......... أبشر بخير فإن الفارج الله
إذا بليت فثق بالله وأرضى به......... إن الذي يكشف البلوى هو الله
ومن الأدعية عند النوازل والفتن والخوف ما أخرجه أبو داوود والنسائي عن أبي موسى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا خاف قوما قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
وكان يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند لقاء العدو: اللهم أنت عضدي وأنت ناصري، بك أصول وبك أجول وبك أقاتل.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين القي في النار، وقالها نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم.
فإذا كان المحيي والمميت والرزاق هو الله، فلماذا التعلق بغير الله؟
لماذا الخوف من الناس و(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك.
أيها المسلم، لا يمكن للقلب أبدا أن يسكن أو يرتاح أو يطمأن لغير الله، فاحفظ الله يحفظك وردد : ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
رأى موسى عليه السلام البحر أمامه والعدو خلفه فقال: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، إنها العناية الربانية إذا ركن إليها العبد صادقا مخلصا.
نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ويرى أقدام أعدائه على باب الغار، ويلتفت إلى صاحبه يقول: ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )، والأعجب من ذلك أنه مطارد مشرد يبشر سراقة بأنه سوف يلبس سواري كسرى، هكذا الإيمان والاعتصام بالله.
كان (صلى) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، أي إذا نزل به أم أو أصابه غم لجأ إلى الله، فزع إلى الصلاة ليلجأ إلى الله، ويشكو إلى الله، ويناجي مولاه.
إنها الثقة بالله عند الشدائد، فهو يأوي إلى ركن شديد.
فيا من وقعت بشدة أرفع يديك إلى السماء، وألح على الله بالدعاء والله يعصمك من الناس.
وإن كنتَ مظلوماً فأبشر فإن النبيَ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: وأتقِ دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
ألا قولوا لشخص قد تقوى............على ضعفي ولم يخشى رقيبه
خبأت له سهاما في الليالي............. وأرجو أن تكون له مصيبة
أيها الأخوة والأخوات، إن من أعظم البلايا وأشد الرزايا ما يصيب المسلمين في كل مكان من غزو واجتياح وتعديات ومظالم وفقر وتجويع حتى أصاب بعض النفوس الضعيفة اليأس والقنوط والإحباط وفقدان الثقة والأمل.
لماذا أيها الأخوة ؟ أليس الأمر لله من قبل ومن بعد، أليس حسبنا الله وكفى بالله حسيبا، أليس الله بقادر، أليس هو الناصر وكفى بالله نصيرا، ألا يعلم الله مكرهم، ألم يقل:
( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
أليس الله بكافي عبده: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
ألم يقل: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).
ألم يقل: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
معاشر الأخوة اسمعوا وعوا، وأعلموا وأعلنوا، إن مصيبتنا ليست بقوة عدونا، إنما هي بضعف صلتنا بربنا، وضعف ثقتنا وقلة اعتمادنا عليه، لنفتش في أنفسنا عند وقوعنا في الشدائد والمحن، أين الضراعة والشكوى لله، أين اللجاءة والمنجاة لله؟ ليس شيء أفضل عند الله من الدعاء لأن فيه إظهار الفقر والعجز، والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته وغناه.
أيها المسلمون، نريد أن تعلم فن الدعاء والتذلل والخضوع والبكاء، لنعترف بالفقر إليه، ولنظهر العجز والضعف بين يديه، أليس لنا في رسول الله قدوة، أليس لنا فيه أسوة، أوذي أشد الأذى، وكذّب أشد التكذيب، أتهم بعرضه وخدشت كرامته، وطرد من بلده، عاشا يتيما وافتقر، ومن شدةِ الجوع ربط على بطنه الحجر، قيل عنه كذابُ وساحر، ومجنونُ وشاعر، توضعُ العراقيلُ في طريقه، وسلى الجزورِ على ظهره، يشجُ رأسُه، وتكسرُ رباعيتُه، يقتلُ عمه، جمعوا عليه الأحزابَ وحاصروه، المشركون والمنافقون واليهود.
يذهبُ إلى الطائفِ يبلغُ دعوتَه فيقابلَ بالتكذيبِ والسبِ والشتمِ، ويطُردَ ويلاحقَ ويرمى بالحجارةِ فماذا فعل -بأبي هوَ وأمي- (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
أين ذهب، من يسأل، على من يشكو، إلى ذي الجبروتِ والملكوتِ، إلى القوي العزيز، فأعلن (صلى الله عليه وآله وسلم) الشكوى، ورفعَ يديه بالنجوى، دعاء وألحَ وبكاء، وتظلمَ وتألمَ وشكا، لكن اسمع لفنِ الشكوى وإظهار العجزِ والضعفِ والافتقار منه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
اللهم إليك أشكو ضعفَ قوتي وقلتَ حيلتي وهوانِ على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكِلني إلى عدوٍ يتجهمني، أم إلى قريبٍ ملكتَه أمري، إن لم تكن ساخطاً عليَ فلا أُبالي، غير أن عافيتَك أوسعُ لي، أعوذ بنورِ وجهَك الكريم، الذي أضاءت له السماوات، وأشرقت له الظلمات، وصلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة، أن تُحلَ عليَ غضبَك أو تُنزلَ علي سخَطَك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوة إلا بك. هكذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ضراعة ونجوى لربه.
أيها الأخوة، لماذا نشكو إلى الناس، ونبث الضعف والهوان والهزيمة النفسية في مجالسنا، وننسى أو نتكاسل عن الشكوى لمن بيده الأمر من قبل ومن بعد قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين َ* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).
أليس فينا من بينه وبين الله أسرار؟ أليس فينا أيها الأحبة أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، أليس فينا من يرفع يديه إلى الله في ظلمة الليل يسجد ويركع، ينتحب ويرفع الشكوى إلى الله.
فلنشكو إلى الله ولنقوي الصلة بالله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
ومن الأدعية في المصيبة والكرب والشدة والضيق ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم.
وفي رواية كان إذا حزبه أمر قال ذلك، قال النووي في شرح مسلم: هو حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة، وقال الطبراني كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب.
وأخرج أبو داوود وأحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: دعوات المكروب، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفت عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
وأخرج الترمذي عن سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوت ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعو بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
لما قالها يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت، قال الله عز وجل: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، قال ابن كثير في تفسيره: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا في هذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب بها عن سيد الأنبياء.
وأخرج مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إن لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها.
قالت فلما مات أبو سلمة قلت في نفسي أي المسلمين خير من أبي سلمة؟
أو بيت هاجر إلى رسول الله، ثم إني قلتها –أي الدعاء- فأخلف الله لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
إذا فالاسترجاع ملجأ وملاذ لذوي المصائب، ومعناه باختصار: إن لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وإن إليه راجعون إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثـنا.
إذا فالأمر كله لله، ولا ملجأ منه إلا إليه، والله عز وجل يقول: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
إليكم أيها الأحبة أمثلة ومواقف للذين لجئوا إلى حصن الإيمان وسلاح الدعاء، وأدركوا أن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء، السلاح الذي يستدفع به البلاء ويرد به شر القضاء.
عن أصبغ ابن زيد قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثا لم نطعم شيئا من الجوع، فخرجت إلي ابنتي الصغيرة وقالت يا أبتي الجوع، تشكو الجوع، قال فأتيت مكان الوضوء – انظروا إلى من اللجاءة، انظروا إلى من يلجئون- فتوضأت وصليت ركعتين، وألهمت دعاء دعوت به وفي آخره: اللهم افتح علي رزقا لا تجعل لأحد علي فيه منة، ولا لك علي فيه في الآخرة تبعة برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت إلى البيت فإذا بابنتي الكبيرة قامت إلي وقالت: يا أبه جاء رجل يقول أنه عمي بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق وحمال عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرءوا أخي السلام وقول له إذا احتجت إلى شيء فأدعو بهذا الدعاء تأتيك حاجتك.
قال أصبغ ابن زيد والله ما كان لي أخو قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير.
فقلت للفكر لما صار مضطربا.......وخانني الصبر والتفريط والجلد
دعها سماوية تمشي على قدر........لا تعترضها بأمر منك تـنفسد
فحفني بخفي اللطف خالقنا........ نعم الوكيل ونعم العون والمدد
وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعدا فقال لي أهلي قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به، قال فتوضأت – نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضوان الله عليهم- فتوضأت وكان لي صديق لا يزال يقسم علي بالله إن يكون لي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد، فذكرت ما روي عن أبي جعفر قال: من عرضت له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل، قال فدخلت المسجد فصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد أفرغ علي النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، قال فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني فيه ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله، ثم انصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن اقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم.
إن ربي لسميع الدعاء، فلا نعجب أيها الأحبة، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
وأسمع لدعا أبن القيم في الفاتحة يقول: ومكثت بمكة مدة يعتريني أدوار لا أجد لها طبيبا ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأرى لها تأثيرا عجيبا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما، فكان كثير منهم يبرأ سريعا.
وفي حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه لما قرأ على سيد الحي الفاتحة قال: فكأنما نشط من عقال، وهذا يشهد أيضا بفضل الفاتحة.
ومن المواقف الجميلة الطريفة في فضل الدعاء أنه كان لسعيد أبن جبير ديكا، كان يقوم من الليل بصياحه، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصلي سعيد قيام الليل تلك الليلة فشق عليه ذلك، فقال ماله قطع الله صوته –يعني الديك-؟
وكان سعيد مجاب الدعوة، فما سمع للديك صوت بعد ذلك الدعاء، فقالت أم سعيد:
يا بني لا تدعو على شيء بعدها.
وذكر أحد الدعاة في بعض رسائله أن رجلا من العباد كان مع أهله في الصحراء في جهة البادية، وكان عابدا قانتا منيبا ذاكرا لله، قال فانقطعت المياه المجاورة لنا وذهبت التمس ماء لأهلي فوجدت أن الغدير قد جف، فعدت إليهم ثم التمسنا الماء يمنة ويسرة فلم نجد ولو قطرة، وأدركنا الظمأ واحتاج أطفالي للماء، فتذكرت رب العزة سبحانه القريب المجيب، فقمت وتيممت واستقبلت القبلة وصليت ركعتين، ثم رفعت يدي وبكيت وسالت دموعي وسألت الله بإلحاح وتذكرت قوله:
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
قال وما هو والله إلا أن قمت من مقامي وليس في السماء من سحاب ولا غيم، وإذا بسحابة قد توسطت مكاني ومنزلي في الصحراء، واحتكمت على المكان ثم أنزلت ماءها فامتلأت الغدران من حولنا وعن يميننا وعن يسارنا فشربنا واغتسلنا وتوضئنا وحمدنا الله سبحانه وتعالى، ثم ارتحلت قليلا خلف هذا المكان وإذا الجدب والقحط، فعلمت أن الله ساقها لي بدعائي، فحمدت الله عز وجل:
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).
وذكر أيضا أن رجلا مسلما ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها، وطلب بأن تمنحه جنسية، قال فأغلقت في وجهه الأبواب، وحاول هذا الرجل كل المحاولة وستفرغ جهده وعرض الأمر على كل معارفه، فبارت الحيل وسدت السبل، ثم لقي عالما ورعا فشكا إليه الحال، فقال له عليك بالثلث الأخير من الليل فأدعو مولاك، إنه الميسر سبحانه وتعالى، قال هذا الرجل: ووالله فقد تركت الذهاب إلى الناس وطلب الشفاعات، وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني ذلك العالم، وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه، وما هو إلا بعد أيام وتقدمت بمعروض عادي ولم اجعل بيني وبينهم واسطة فذهب هذا الخطاب وما هو إلا أيام وفوجئت وأنا في بيتي أني ادعى وأسلم الجنسية، وكنت في ظروف صعبة.
إن الله سميع مجيب، ولطيف قريب، لكن التقصير منا، لابد أن نلج على الله وندعوه، وابشروا:
(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
وأذكر أن طالبا متميز في دراسته حصل له ظرف في ليلة امتحان إحدى المواد، ولم يستطع أن يذاكر جميع المنهج المقرر للمادة إلا بقدر الثلث، فأهتم لذلك واغتم وضاقت عليه نفسه، ولم يستطع الإفادة من باقي الوقت لاضطراب النفس وطول المنهج.
فما كان منه إلا أن توضأ وصلى ركعتين وألح على الله بأسمائه وصفاته وباسمه الأعظم، يقول الطالب فدخلت قاعة الامتحان ووزعت أوراق الأسئلة، وقبل أن انظر فيها دعوت الله ورددت بعض الأذكار، ثم قلبت الورقة فإذا الأسئلة أكثرها من ذلك الثلث الذي درسته، فبدأت بالإجابة ففتح الله علي فتحا عجيبا لم ك أتصوره، ولكن ربي سميع مجيب.
فإلى كل الطلاب والطالبات أقول:
لماذا غفلتم عن الدعاء والشكوى لله وأنتم تشكون لبعضكم وتزفرون وتتوجعون ؟
لماذا يعتمد الكثير منكم على نفسه وذكائه، بل ربما اعتمد البعض على الغش والاحتيال.
إن النفس مهما بلغت من الكمال والذكاء فإنها ضعيفة وهي عرضة للغفلة والنسيان، نعم لنفعل الأسباب ولنحفظ ولنذاكر ولنجتهد ولكن كلها لا شيء إن لم يعينك الله ويفتح عليك، فلا حول ولا قوة إلا بالله في كل شيء، فهل طلبت العون من الله، توكل على الله، وافعل الأسباب، وارفع يديك إلى السماء وقل:
يا سامعا لكل شكوى، وأظهر ضعفك وفقرك لله وسترى النتائج بأذن الله.
وأنت أيها المدرس والمدرسة، بل ويا كل داعية لماذا نعتمد على أنفسنا الضعيفة في التوجيه والتعليم، هب أننا أعددنا الدرس جيدا وفعلنا كل الأسباب، هل يكفي هذا؟
لعلك تسأل ما بقي؟
أقول هل سألت الله العون والتوفيق عند تحضير الدرس؟
هل سألت الله أن يفتح لك القلوب وأن يبارك في كلماتك وأن ينفع بها؟
هل سألت الله العون والتوفيق وأنت تلقي الدرس؟
هل دعوت لطلابك أن يبارك الله لهم وأن ينفع بهم وأن يصلحهم وأن ييسر عليهم.
هذه بعض الأمثلة والمواقف، وما يعرف ويحكى أكثر وأكثر، ولكننا نريد العمل والتطبيق.
تنبيه مهم:
كثير من الناس إذا وقع بشدة عمد إلى الحرام، كمن يذهب للسحرة والكهان، أو يتعامل بالربا والحرام، فإذا نصح أو ذكّر قال: أنه مضطر، أو كما يقول البعض ليس كمن رجله في النار كمن رجله في الماء.
ولعلي أيها الحبيب أذكرك بآية ربما أنك نسّيتها في خضم المصيبة والشدة التي وقعت فيها، إن الله عز وجل يقول: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)،والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدنيا إلى اللجأ والتضرع إلى الله كما يقول الزمخشري.
وأنت أيها الأخ، أو أيتها الأخت، تذكر أنك مضطر والمضطر وعده الله بالإجابة حتى وإن كان فاسقا، فإذا كان الله قد أجاب دعوة المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمسلمين مع تقصيرهم من باب أولى.
جاء رجل إلى مالك ابن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر، قال فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
إن الله قد عز وجل قد ذم من لا يستكين له، ولا يتضرع إليه عند الشدائد، وانتبهوا أيها الأحبة أنه لابد للضراعة والاستكانة لله عند الشدة كما أخبر الله فقال عز من قائل:
(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ).
أي لو استكانوا لربهم لكان أمرا أخر، فكيف بحال من يقع بالشرك والحرام عند البلاء والشدة فيزيد الطين بلة، كيف يريد الشفاء أو انكشاف البلاء وهو يطلبه من مخلوقين مثله ضعفاء.
قال بعض السلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة أن الله عز وجل يقول: يؤمل غيري للشدائد والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أملني لنائبة فقطعن به؟
أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه ؟
ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له ؟
أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني.
أبخيل أنا فيبخلني عبدي، أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي ؟
فما يمنع المؤملين أن يؤملوني، ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه، فيا بأسا للقانطين من رحمتي، ويا بأسا لمن عصاني ووثب على محارمي. ذكر ذل ابن رجب في نور الاقتباس، والإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليه كما يقول شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله.
أيها الأخوة إن اللهَ يحبُ أن يُسأل، ويغضبُ على من لا يسألُه، فإنه يريدُ من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه، ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحبُ الملحين في الدعاء، بل وينادي في كلِ ليلةٍ : هل من سأل فأعطيه، هل من داعٍ فأستجيب له.
فأين المضطرون، أين أصحابُ الحاجات، أين من وقع في الشدائدِ والكُربات.
معاشر الأخوة والأخوات، اقرءوا وانظروا في حادثة الإفك، وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار، وحديث المغترب الذي وضع المال في الخشبة وألقاها في البحر، وحديث الثلاثة الذين خلفوا، وغيرها من القصص النبوي في الصحاح والسنن، فرج عنهم بسؤالهم لله، وإلحاحهم بالدعاء، رفعوا أيديهم إلى الله، وأعلنوا الخضوع والذل لله، وهذا الذل لا يصلح إلى لله، لحبيبه ومولاه.
ذل الفتى في الحب مكرمة....... وخضوعه لحبيبه شرف
فالعبوديةُ لله عزٌ ورفعةٌ، ولغيره ذلٌ ومهانة، وفي سؤال الله عبودية عظيمة لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج.
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا......فأبذله للمتكرم المفضال
كان يحي ابن معاذ يقول: يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من سألك.
وكان بكر المزني يقول: من مثل يا ابن آدم؟ متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان.
وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إلى بعض المخلوقين، فقال له أنا لا أترع بابا مفتوحا وأذهب إلى باب مغلق.
هكذا فلتكن الثقة بالله والتوكل على الله.
وقبل الختام وحتى نصل إلى ما نريد من فن الشكوى وحسن النجوى تنبه إلى هذه التوجيهات:
أولا: الدعاء له آداب وشروط:
لابد من تعلمها والحرص عليها، واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس من ابن القيم رحمه الله قال: وإذا جمع العبد مع الدعاء حضور القلب وصادف وقتا من أوقات الإجابة وخشوعا في القلب وانكسارا بين يدي الرب وذلا له وتضرعا ورقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على رسول الله، ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقة فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا، ولا سيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها مظنة الإجابة، وأنها متضمنة للإسم الأعظم. انتهى كلامه بتصرف.
ثانيا: الصدقة:
وقد أكد عليها أبن القيم في كلامه السابق، ولها أثر عجيب في قبول الدعاء، بل وفعل المعروف أيا كان وصنائع المعروف تقي مصارع السوء كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والله عز وجل يقول عن يونس عليه السلام: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
ثالثا: عليك بالصبر وإياك واليأس والقنوط:
وفي هذا توجيهات منها أن تعلم أن الدعاء عبادة، ولو لم يتوفر لك من دعائك إلا الأجر على هذا الدعاء بعد إخلاصك لله عز وجل فيه لكفى، ومنها أن تعلم أن أعلم بمصلحتك منك، فيعلم سبحانه أن مصلحتك بتأجيل الإجابة أو عدمها، ومنها لا تجزع من عدم الإجابة فربما دُفع عنك بهذا الدعاء شرا كان سينزل بك، فعن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا أتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم إذا نكثر، قال الله أكثر. وزاد فيه الحاكم: أو يدخر له من الأجر مثلها.
رابعا:ربما كان عدم الإجابة أو تأخيرها امتحان لصبرك وتحملك وجلدك:
وهل تستمر في الدعاء وفي هذه العبادة، أم تستحسر وتمل وتترك الدعاء، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يستجاب لأحكم ما لم يعجل يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي.
وفي رواية لمسلم قيل: يا رسول الله ماالاستعجال؟ قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء.
خامسا: أن تلقي باللوم على نفسك:
وهي من أهمها، فقد يمون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي، أو التقصير وإخلالك بالدعاء أو تعديك فيه، فمن أعظم الأمور أن تتهم نفسك وتنسب التقصير وعدم الإجابة لنفسك، فهذا من أعظم الذل والافتقار لله.
وأسمع أيضا لهذا الكلام الجميل النفيس لأبن رجب رحمه الله يقول: إن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إلى نفسه باللائمة يقول لها إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خيرا لأُجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه، فلذلك يسرع إليه حين إذ إجابة الدعاء، وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر. انتهى كلامه.
سادسا: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة:
قال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعاء في السراء، فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعا في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت ليس بمعروف.
أيها الأخوة، وأنا أتأمل في حديث الثلاثة أصحاب الغار وهم يدعون ويتوسلون إلى الله بصالح أعمالهم وأخلصها لله، أقول في نفسي وأفتش فيها أين ذلك العمل الصالح الخالص لله الخالي من حظوظ النفس، الذي سألجأ إلى الله فيه عند الشدة.
فلنرجع لأنفسنا ولنسألها مثل هذا السؤال، لنبحث في أعمالنا وعن الإخلاص لله فيها، ولنكن على صلة بالله في الرخاء، وصدق من قال:
إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد......ذخرا يكون كصالح الأعمال
سابعا: إن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان بالله تعالى:
وفيه اطمئنان للنفس وراحة للقلب، فأعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطئك لم يكن ليصيبك، وتذكر دائما أن كل شيء بقضاء وقدر، وأنه من عند الله.
ثامنا: أحرص على أكل الحلال فهو شرط من شروط إجابة الدعاء:
وفي الحديث: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنا يستجاب له.
فالله الله بالحلال فإن له أثر عجيب في إجابة الدعاء، ربما قصرنا بوظائفنا، أي نوع من التقصير، وكان ذلك التقصير سبب في رد الدعاء أو إجابته، فلنتنبه لهذا أيها الأحبة.
تاسعا: حتى تكون مجاب للدعوة إن شاء الله أكثر من الاستغفار في الليل والنهار:
فلو لم يكن فيه إلا قول الحق عز وجل: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً)، فأين من يشكو الفقر والعقم والقحط عن هذه الآية.
هذه توجيهات أنتبه إليها قبل أن ترفع يديك إلى السماء لتكن مجاب الدعاء إن شاء الله.
إلى كل مصاب ومنكوب، وإلى كل من وقع في شدة وضيق أقول:
اطمأنوا فقد سبقكم أناس في هذا الطريق، وما هي إلا أيام سرعان ما تنقضي، وفي بطون الكتب المصنفة في الفرج بعد الشدة للتنوخي وأبن أبي الدنيا والسيوطي وغيرهم مئات القصص لمن مرضوا أو افتقروا أو عذبوا أو شردوا أو حبسوا أو عزلوا، ثم جاءهم الفرج ساقه لهم السميع المجيب.
فلك في المصابين أسوة قال ابن القيم في زاد المعاد كلام جميل أيضا فأسمعه:
قال ومن علاجه – أي علاج المصيبة- أن يطفأ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة، وأنه لو فتش العلم لم يرى فيهم إلا مبتلى إما بفوت محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما ساءت دهرا، وإن متعت قليلا منعت طويلا، وما ملئت دارا حبرة –أي سعادة- إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور.
أيها الأخوة والأخوات، قصص القرآن والأحاديث في كتب السنة والقصص والمواقف في كتب الفرج بعد الشدة، والأحداث والعبر في واقعنا المعاصر جميعها تخبرنا أن الشدائد مهما طالت لا تدوم على أصحابها.
إذا اشتملت على اليأس القلوب......وضاقت لما به الصدر الرحيب
و أوطنت المكاره واطمأنت..........وأرست غي أماكنها الخطوب
ولم ترى لانكشاف الضر وجها.....ولا أغني بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث........ يجيء به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت......... فموصول بها الفرج القريب
ولو لم يكن في المصائب والبلايا إلا أنها سبب لتكفير الذنوب، وكسر لجماح النفس وغرورها، ونيل للثواب بالصبر عليها وتذكير بالعمة التي غفل عن شكرها.
وهي تذكر العبد بذنوبه، فربما تاب وأقلع عنها.
وهي تجلب عطف الناس ووقوفهم مع المصاب، بل من أعظم ثمار المصيبة أن يتوجه العبد بقلبه إلى الله، ويقف بابه ويتضرع إليه، فسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء.
فالبلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات للمخلوقين ويوجب له الإقبال على الخالق وحده، وهذا هو الإخلاص والتوحيد.
فإذا علم العبد أن هذه من ثمار المصيبة أنس بها وارتاح ولم ينزعج، ولم يقنط، فإلى ذوي المصائب والحاجات والشدائد والكربات إن منهج القرآن يقول:
( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
بل اسمعوا إلى هذه الآية العجيبة ففيها عزاء وتطمين لكل المسلمين قال تعالى:
( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).
فلماذا التسخط والجزع والشكوى والأنين فلعل في ما حصل خيرا لك فتفاءل وأبشر، واعتمد على الله وارفع يديك إلى السماء وقل: يا سامعا لكل شكوى.
واحسن الظن بالله وقل:
صبرا جميلا ما أسرع الفرج
من صدق الله في الأمور نجى
من خشي الله لم ينله أذى
من رجا الله كان حيث رجا
هذه كلمات لتسلية المحزونين، وتفريج كرب الملذوعين، وهي عزاء للمصابين وتطييب للمنكسرين.
أسأل الله أن ينفع بها المسلمين وأن يغفر لي ولك أجمعين.
فيا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى.
يا سابغ النعم، ويا دفع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كشف الظلل، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا ولي من ظُلم.
يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه الليل ويشرق عليه النهار.
كم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قل عندها صبرنا، فيا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا، ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يخذلنا أقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك حتى لا نرجو أحدا غيرك.
اللهم إنا نسألك إيمانا ثابتا، ويقينا صادقا حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا، اللهم لا نهلك وأنت رجائنا، اللهم لا نهلك وأنت رجائنا احرسنا بعينك التي لا تنام وبركنك الذي لا يرام.
يا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى، يا كاشف كربتنا، ويا مستمع دعوتنا، ويا راحم عبرتنا، ويا مقيل عثرتنا.
يا رب البيت العتيق أكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق، واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق، اللهم فرج عنا وعن المسلمين كل هم غم، وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب.
يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا منزل القطر، يا مجيب دعوت المضطر، يا سامعا لكل نجوى احفظ إيمان وأمن بلادنا، ووفق ولاة الأمر لما فيه صلاح الإسلام والعباد.
يا كاشف كل ضر وبلية، ويا عالم كل سر وخفية نسألك فرجا قريبا للمسلمين، وصبرا جميلا للمستضعفين، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدا، ويا ذا النعم التي لا تحصى أبدا، أسألك أن تصلي على محمد وعلى آلي محمد أبدا.
اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
- الاستئذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك إلى قيام الساعة.
في اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الـجـليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
أخي الحبيب لا تحرمنا من دعوة صالحة في ظهر الغيب..
| | |
13 - 9 - 2014, 02:13 PM
|
#75 |    
رد: مدونة المحاضرات والخطب الاسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يُطعم ولا يطعم، منّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا.
الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصّر من العمى، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا سامعا لكل شكوى.
يا خالق الأكوان أنت المرتجى...... وإليك وحدك ترتقي صلواتي
يا خالقي ماذا أقول وأنت تعلمـــني وتعلم حاجتي وشكاتــي
يا خالقي ماذا أقول وأنت........... مطلع على شكواي والأناتي
اللهم يا موضع كل شكوى، ويا سمع كل نجوى، ويا شاهد كل بلوى، يا عالم كل خفية، و يا كاشف كل بلية، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاء من أشدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت.
يا أرحم الراحمين أكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.
يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وأرحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذي الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.
معاشر الأخوة والأخوات:
إن في تقلب الدهر عجائب، وفي تغير الأحوال مواعظ، توالت العقبات، وتكاثرت النكبات، وطغت الماديات على كثير من الخلق فتنكروا لربهم ووهنت صلتهم به.
اعتمدوا على الأسباب المادية البحتة، فسادة موجات القلق والاضطراب، والضعف والهوان، وعم الهلع والخوف من المستقبل، خافوا على المستقبل، تخلوا عن ربهم فتخلى الله عنهم:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
جميعُ الخلق مفتقرون إلى الله، مفتقرون إلى الله في كل شؤونِهم وأحوالِهم، وفي كلِ كبيرةٍ وصغيره، وفي هذا العصرُ تعلقَ الناسُ بالناسِ، وشكا الناسُ إلى الناس، ولا بئسَ أن يُستعانُ بالناس في ما يقدرون عليه، لكن أن يكونَ المُعتمَدُ عليهم، والسؤال إليهم، والتعلقُ بهم فهذا هو الهلاكُ بعينه، فإن من تعلق بشيٍ وكلَ إليه.
نعتمدُ على أنفسِنا وذكائِنا بكل غرورٍ وعجب وصلف، أما أن نسأل اللهَ العونَ والتوفيق، ونلحَ عليه بالدعاء، ونحرِصِ على دوام الصلة باللهِ في كلِ الأشياء، وفي الشدةِ والرخاء، فهذا أخرُ ما يفكرُ به بعض الناس.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي.........ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي...........وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا......فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا.....فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا.....فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي......فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل ؟
هذا يشكُ علةً وسقما.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين ،وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
أيها الأخوة، السؤال الذي يجب أن يكون، هؤلاء إلى من يشكون، و أيديَهم إلى من يمدون؟
يجيبك واقعُ الحال على بشرٍ مثلُهم يترددون، وللعبيدِ يتملقون، يسألون ويلحون وفي المديح والثناء يتقلبون، وربما على السحرة والكهنة يتهافتون.
نعم والله تألمنا شكاوي المستضعفين، وزفراتُ المساكين، وصرخاتُ المنكوبين، وتدمعُ أعُينَنا - يعلم الله- لأهات المتوجعين، وأناتُ المظلومين، وانكسارِ الملذوعين، لكن أليس إلى اللهِ وحدَه المشتكى ؟
أين الإيمان بالله ؟ أين التوكلُ على الله ؟ أين الثقةُ و اليقينُ بالله ؟
وإذا عرتك بليةًُ فأصبر لها.......صبرُ الكريمِ فإنه بك أرحمُ
وإذا شكوتَ إلى ابنِ أدم إنما.....تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ
ألم نسمع عن أناس كانوا يشكون إلى الله حتى انقطاع سير نعلهم، نعم حتى سير النعل كانوا يسألونه الله، بل كانوا يسألون الله حتى الملح.
يا أصحابَ الحاجات.
أيها المرضى.
أيها المدينون.
أيها المكروب والمظلوم.
أيها المُعسرُ والمهموم.
أيها الفقيرُ والمحروم.
يا من يبحث عن السعادة الزوجية.
يا من يشكو العقم ويبحث عن الذرية.
يا من يريد التوفيق بالدراسة والوظيفة.
يا من يهتم لأمر المسلمين.
يا كلُ محتاج، يا من ضاقت عليه الأرضُ بما رحبت.
لماذا لا نشكوُ إلى اللهِ أمرنا وهو القائل: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
لماذا لا نرفعُ أكفَ الضراعة إلى الله وهو القائل: ( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ).
لماذا ضُعفُ الصلةِ بالله، وقلةُ الاعتمادِ على الله، وهو القائل: ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ). لولا دعاؤكم.
أيها المؤمنون، أيها المسلمون يا أصحابَ الحاجات، ألم نقرأ في القرآنِ قول الحق عز وجل: ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) لماذا ؟ ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
فأين نحن من الشكوى لله، أين نحن من الإلحاح والتضرعِ الله؟
سبحان الله، ألسنا بحاجةٍ إلى ربنا؟
أنعتمدُ على قوتنا وحولِنا، والله ثم واللهِ لا حول لنا ولا قوةَ إلا بالله.
واللهِ لا شفاء إلا بيد الله، ولا كاشفَ للبلوى إلا الله، لا توفيق ولا فلاح ولا سعادةَ ولا نجاح إلا من الله.
العجيبُ والغريب أيها الأخوةُ أن كلَ مسلمٍ يعلمُ ذلك، ويعترفُ بهذا بل ويقسمُ على هذا، فلماذا إذاً تتعلقُ القلوبُ بالضعفاءُ العاجزين ؟
ولماذا نشكو إلى الناسِ ونلجأَ للمخلوقين ؟
سل الله ربك ما عنده......... ولا تسأل الناس ما عندهم
ولا تبتغي من سواه الغنى..... وكن عبده لا تكن عبدهم
فمن يا إذا بُليت سلاك أحبابك، وهجرك أصحابك.
يا من نزلت بها نازلة، أو حلت به كارثة.
يا من بليت بمصيبةٍ أو بلاءٍ، ارفع يديك إلى السماء وأكثر الدمعَ والبكاء، وألحَ على اللهِ بالدعاء وقل:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
إذا استعنت فأستعن بالله، وإذا سألت فأسأل الله، وقل يا سامعاً لكل شكوى.
توكل على الله وحده، وأعلن بصدقٍ أنك عبده واسجد لله بخشوع، وردد بصوتٍ مسموع:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
أنت الملاذُ إذا ما أزمةٌ شملت........وأنت ملجأُ من ضاقت بهِ الحيلُ
أنتَ المنادى به في كلِ حادثِةٍ.......أنت الإلهُ وأنت الذخرُ والأملُ
أنت الرجاءُ لمن سُدت مذاهبهُ......أنت الدليلُ لمن ضلت بهِ السبلُ
إنا قصدناك والآمال واقعةٌ.........عليكَ والكلُ ملهوفُ ومبتهلُ
إن الأنبياء والرسلَ، وهم خيرُ الخلق، وأحبُ الناسَ إلى الله، نزل بهم البلاء واشتدَ بهم الكرب، فماذا فعلوا وإلى من لجئوا.
أخي الحبيب، أختصرُ لك الإجابة، إنه التضرعُ والدعاء، والافتقارُ لربِ الأرضِ والسماء، إنها الشكايةُ لله وحُسنُ الصلةِ بالله.
هذا نوحٌ عليه السلام يشكو أمرَه إلى الله ويلجأُ لمولاه:
قال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
كانتِ المناداة، كانتِ المناجاة، فكانتِ الإجابةُ من الرحمن الرحيم.
وقال تعالى: ( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
وقال عز من قائل: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ).
هذا أيوبُ عليه السلام، ابتلاهُ اللهُ بالمرضِ ثمانيةَ عشر عاماً حتى أن الناسُ ملوا زيارته لطولِ المدة، فلم يبقى معه إلا رجلانِ من إخوانهِ يزورانه، لكنه لم ييئس عليه السلام، بل صبرَ واحتسب، وأثنى الله عليه: ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أواب أي رجاعٌ منيبٌ إلى ربه، ظل على صلتِه بربِه وثقتِه به، ورضِاهُ بما قُسم الله له، توجه إلى ربه بالشكوى ليرفع عنه الضراء والبلوى قال تعالىوَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
قال الحقُ عز وجل ، العليمُ البصيرُ بعباده، الرحمنُ الرحيم قالَ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).
هذا يونسُ عليه السلام، رفع الشكاية لله فلم ينادي ولم يناجي إلا الله قال تعالى:
( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
وزكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ). ماذا كانت النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). الذين يشكون العقم وقلة الولد.
إذا لماذا استجاب الله دعاه؟
لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وكانوا لا يملون الدعاء، بل كان القلب متصل متعلق بالله، لذلك قال الله عنهم: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
خاشعين متذللين، معترفين بالتقصير، فالشكاية تخرج من القلب قبل اللسان.
يعقوبُ عليه السلام قال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، انظروا لليقين، انظروا للمعرفة برب العالمين: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، فاستجاب اللهُ دعائَه وشكواه وردَ عليه يوسفَ وأخاه.
وهذا يوسف عليه السلام ابتلاه الله بكيد النساء، فلجأ إلى الله، وشكى إليه ودعاه فقال:
( وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، إنه التضرع والدعاء، والافتقار لرب الأرض والسماء، إنها الشكاية لله، وحسن الصلة بالله.
(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وأخبر الله عن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ). استغاثة لجاءة إلى الله، شكوى وصلة بالله سبحانه وتعالى.
وهكذا أيها الأحبةِ حينما نستعرضُ حياةَ الرسلِ جميعاً، كما قصها علينا القرآن الكريم، نرى أن الابتلاء والامتحان كان مادتُها وماُئها، وأن الصبرَ وحسنُ الصلةِ بالله ودوام الالتجاءِ وكثرةُ الدعاءِ وحلاوة الشكوى كان قوَمُها.
وما أشرنا إليه إنما هي نماذج من الاستجابة للدعاء، ومن في كتب السير والتفاسير وقف على شدةِ البلاء الذي أصاب الأنبياء، وعلم أن الاستجابةَ جاءت بعد إلحاحٍ ودعاء، واستغاثةٍ ونداء.
إنها آياتُ بينات وبراهينُ واضحات، تقول بل وتعلن أن من توكلَ واعتمد على الله، وأحسن الصلة بمولاه استجاب الله دعاه، وحفظه ورعاه، فإن لم يكن ذلك في الدنيا كان في الآخرة: ( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ).
أنها صفحاتٌ من الابتلاء والصبر معروضةٌ للبشرية، لتسجل أن لا اعتماد إلا على الله، وان لا فارجَ للهمِ ولا كاشفَ للبلوى إلا الله.
هذا هو طريق الاستعلاء أن تنظرَ إلى السماء، وأن نلحُ بالدعاء، لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوةِ والسعادة، وأنك تأوي إلى ركنٍ شديد.
أما الشكوى إلى الناس، والنظرِ إلى ما في أيدي الناس فيشعرك بالضعف والذل والإهانةِ والتبعية.
يا أهل التوحيد، أليس هذا أصل من أصول التوحيد ؟
إن من أصول التوحيد أن تتعلق القلوبُ بخالقها في وقت الشدةِ والرخاء والخوفِ والأمن، والمرضِ والصحة، وفي كل حالٍ وزمان.
وما نراه اليومَ من تعلقِ القلوب بالمخلوقين، وبالأسباب وحدها دون اللجأ إلى الله، لهو نذيرُ خطرٍ يزعزعُ عقيدةِ التوحيدِ في النفوس.
أيها الأحبة: إن الشكوى لله، والتضرعَ إلى الله، وإظهارَ الحاجة إليه، ولاعتراف بالافتقار إليه من أعظمِ عرى الإيمانِ وثوابتِ التوحيد، وبرهانُ ذلك الدعاء والإلحاح بالسؤال، والثقةُ واليقينُ بالله في كلِ حال.
ولقد زخرت كتبُ السنةِ بأنواعٍ من الدعاءِ تجعلُ المسلمَ على صلةٍ بربه، وفي حرزٍ من عدوه، يقضي أمره ويكفي همه.
في كلِ مناسبةٍ دعا، في اليقظةِ والمنام، والحركة والسكون، قياماً وقعودا، وعلى الجنوب، ابتهالٌ وتضرعٌ في كل ما أهم العبد، وهل إلى غيرِ الله مفر، أم هل إلى غيره ملاذ.
ففي المرض مثلا الأحاديث كثيرة، والأدعية مستفيضة، إليك على سبيل المثال ما أحرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه المعوذات، وينفث، فلما أشتد وجعه كنت اقرأ عليه وأمسح عليه رجاء بركتها.
وأخرج البخاري ومسلم أيضا من حديث عائشة قالت:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس رب الناس، وأشفي أنت الشافي لا شفاء إلا شفائك، شفاء لا يغادر سقما، أي لا يترك سقما.
وفي صحيح مسلم عن عثمان أبن أبي العاص رضي الله تعالى عنه:
أنه شكى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): ضع يدك على الذي تألم من جسدك.
انظروا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قدوتنا وحبيبنا يربي الناس، ويربي أصحابه على الاعتماد واللجاءة إلى الله، ضع يدك، الإرشاد أولا لله، التعلق أولا بالله، لم يرشده أولا لطبيب حاذق ولا بأس بهذا، لكن التعلق بالله يأتي أولا.
ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله، بسم الله ثم يقول سبعا أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر.
وفي رواية أمسحه بيمينك سبع مرات، وفي رواية قال عثمان فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
سبحان الله، اسمعوا لحسن الصلة بالله، والتوكل على الله، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
أيها المريض، أعلم أن من أعظم أسباب الشفاء التداوي بالرقى الشرعية من القرآن والأدعية النبوية، ولها أثر عجيب في شفاء المريض وزوال علته، لكنها تريد قلبا صادقا وذلا وخضوعا لله.
رددها أنت بلسانك، فرقيتك لنفسك أفضل وأنجح، فأنت المريض وأنت صاحب الحاجة، وأنت المضطر، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، وما حك جلدك مثل ظفرك، فتوكل على الله بصدق وألح عليه بدون ملل، وأظهر ضعفك وعجزك، وحالك وفقرك إليه، وستجد النتيجة العجيبة إن شاء الله ثقة بالله.
فإلى كل مريض مهما كان مرضه أقول:
شفاك الله وعافاك، اعلم أن الأمراض من جملة ما يبتلي الله به عباده، والله عز وجل لا يقضي شيئا إلا وفيه الخير والرحمة لعباده، وربما كان مرضك لحكمة خفيت عليك، أو خفيت على عقلك البشري الضعيف، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
أيها الحبيب شفاك الله، هل علمت أن للأمراض والأسقام فوائد وحكم أشار أبن القيم إلى أنه أحصاها فزادت على مائة فائدة (انظر كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل صفحة 525).
أيها المسلم أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك وأن يعافيك، هل سمعت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.
وهل سمعت أنها (صلى الله عليه وآله وسلم): زار أم العلاء وهي مريضة فقال الله ابشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة.
قال أبن عبد البر رحمه الله: الذنوب تكفرها المصائب والآلام، والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه.
والأحاديث والآثار في هذا مشهورة ليس هذا مقام بسطها، لكن المراد هنا أننا نرى حال بعض الناس إذا مرض فهو يفعل كل الأسباب المادية من ذهاب للأطباء وأخذ للدواء وبذل للأموال وسفر للقريب والبعيد، ولا شك أن هذا مشروع محمود، ولكن الأمر الغريب أن يطرق كل الأبواب وينسى باب مسبب الأسباب، بل ربما لجأ للسحرة والمشعوذين، نعوذ بالله من حال الشرك والمشركين.
ألم يقرأ هذا وأمثاله في القرآن وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
أيها المريض أعلم أن الشافي هو الله، ولا شفاء إلا شفائه.
أيها المريض، بل يا كل مصاب أيا كانت مصيبته، هل سألت نفسك لماذا ابتلاك الله بهذا المرض، أو بهذه المصيبة ؟ ربما لخير كثير ولحكم لا تعلمها ولكن الله يعلمها،ألم يخطر ببالك أنه أصابك بهذا البلاء ليسمع صوتك وأنت تدعوه، ويرى فقرك وأنت ترجوه، فمن فوائد المصائب استخراج مكنون عبودية الدعاء.
قال أحدهم: سبحان من استخرج الدعاء بالبلاء.
وفي الأثر أن الله ابتلى عبدا صالحا من عباده وقال لملائكته لأسمع صوته.
يعني بالدعاء والإلحاح.
أيها المريض، المرض يريك فقرك وحاجتك إلى الله، وأنه لا غنى لك عنه طرفة عين، فيتعلق قلبك بالله، وتقبل عليه بعد أن كنت غافلا عنه، وصدق من قال:
فربما صحت الأجسام بالعلل.
فأرفع يديك وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بذلك وضعفك.
في رواية عن سعيد ابن عنبسة قال: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به إذ رجعت حصاة منه عليه فصارت في أذنه، فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تألمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئ يقرأ: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ).
فقال الرجل: يا رب أنت المجيب وأنا المضطر فأكشف عني ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه في الحال.
لا تعجب، إن ربي لسميع الدعاء، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
أيها المريض، إياك وسوء الظن بالله إن طال بك المرض، فتعتقد أن الله أراد بك سوء، أو أنه لا يريد معافاتك، أو أنه ظالم لك، فإنك إن ظننت ذلك فإنك على خطر عظيم.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله تعالى يقول أنا عند ظني عبد بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله.
يعني ما كان في ظنه فإني فاعله به، فأحسن الظن بالله تجد خيرا إن شاء الله.
لا تجزعن إذا نالتك موجعة.............. واضرع إلى الله يسرع نحوك الفرج
ثم استعن بجميل الصبر محتسبا............ فصبح يسرك بعد العسر ينسلج
فسوف يدلج عنك الهم مرتحلا........... وإن أقام قليلا سوف يدّلج
هذا في المرض، وأطلت فيه لكثرة المرضى، وحاجة الناس إلى مثل هذه التوجيهات، وهي تحتاج إلى دروس ومحاضرات، ولكن حسبي ما ذكرته الآن لأن الموضوع عام في المصائب والآلام.
ومن المصائب والآلام التي يحتاج الناس فيها إلى الشكوى إلى الله تراكم الديون وكثرة المعسرين.
كم من مدين عجز عن الوفاء، وكم من معسر يعيش في شقاء، هم في الليل وذل في النهار، أحزان وآلام لا يغمض في منام، ولا يهنأ في طعام، طريد للغرماء، أو مع السجناء، صبية صغار، وبيت للأجار، وزوجة مسكينة لا تدري أتطرق أبواب المحسنين أو تسلك طرق الفاسقين.
هذه رسالة مؤلمة من زوجة إلى زوجها في السجن بسبب الديون جاء فيها:
لم أتمتع معك في حياتنا الزوجية إلا فترة من الزمن حتى غيبوك في غياهب السجون، كم سنة غبت عني لا أدري ماذا فعل الله بك، ولا أدري عنك أحي فترجى أم ميت فتنعى، ليتك ترى حالي وحال أولادك، ليتك ترى حال صغارك، لست أدري هل أخون أمانة الله وأمانتك وأطلب الرزق لهؤلاء بطرق محرمة وأنا في ذمتك وعهدك، أم أطلب الطلاق ويضيع أولادك.. إلى أخر الرسالة من كتاب إلى الدائنين والمدينين.
وأقول أيها الأحبة، تصوروا حال هذا الزوج كيف يكون وهو يقرأ هذه الكلمات، ديون وسجون وهموم وأولاد، ذل وخضوع للناس.
وأسمعوا لهذا الرجل وهو يشكو حاله ويقول: أنا رجل سجين علي مبلغ من المال، وصار لي في السجن أكثر من سنة ونصف، ولا يقبل خصمي كفيلا، وأنا معسر وصاحب عائلة فهل يجوز سجني؟
إلى هؤلاء وأمثالهم أقول: لماذا طرقتم الأبواب كلها ونسيتم باب من يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا خائبتين. وسنده جيد.
قال السري السبطي: كن مثل الصبي إذا اشتهى على أبويه شهوة فلم يمكناه قعد يبكي عليهما، فكن أنت مثله إذا سألت ربك ولم يعطك، فأقعد وأبكي عليه.
ولرب نازلة يضيق بها الفتى............... ذرعا وعند الله منها مخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها.......... فرجت وكان يظنها لا تفرج
ومن الأدعية في قضاء الدين ما أخرجه أبو داوود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد ذات يوم فرأى فيه رجلا من الأنصار يقال له أبو أمامه، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة، قال هموم لزمتني، وديون يا رسول الله. قال (صلى الله عليه وآله وسلم) أفلا أعلمك كلاما إذ قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك، قلت بلى يا رسول الله، قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
قال ففعلت ذلك فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى عني ديني.
يعلق القلوب بالله صلوات الله وسلامه عليه.
وروى البيهقي في فضائل الأعمال عن حماد ابن سلمة أن عاصما ابن أبي إسحاق شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة -أ ي حاجة وفاقة - فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الصحراء ثم وضعت وجهي على الأرض وقلت يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سمع الأصوات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضل عن من سواك. يلح على الله بهذا الدعاء.
قال فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعت بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون دينارا وجوهرا ملفوفا بقطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم، وأبقيت الدنانير فاشتريت منها عقارا وحمدت الله تعالى على ذلك.
لا نعجب أيها الأخوة، إن ربي لسميع الدعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ومن الأدعية عند الهم والقلق ما أخرجه أحمد في المسند من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك، ابن عبدك أبن أمتك نصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضائك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزن وأبدله مكانه فرجا، وفي رواية فرحا، قال فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها، قال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها.
أيها الأخوة، إن الإنسان منا ضعيف، ضعيف فكيف إذا اجتمعت عليه الهموم والأحزان، وشواغل الدنيا ومشاكلها فزادته ضعفا، وجعلته فريسة للهم والقلق والتمزق النفسي.
انظروا للعيادات النفسية، وكثرت المراجعين لها، شباب وفتيات في أعمار الزهور، أين هؤلاء من الاعتصام بالله، والاتصال والشكوى للذي قدّر الهموم والغموم وقضى بالمصائب والأحزان.
يتصل به متذللا معترفا بذنبه طارقا بابه مستعينا به مستيقنا بأنه هو القادر على كشفها دون سواه، وما سواه إلا أسباب هو الذي يقدرها ويهيئها للعبد.
إن الله تعالى يقول: ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً).
قال أبن القيم في طريق الهجرتين: فإن الإنسان ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة ضعيف الصبر والآفات إليه مع هذا الضعف أسرع من السيل في صيب الحدور، فبالاضطرار لابد له من حافظ معين يقويـه ويعينـه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه.
إذا فلنتعلم هذا الحديث كما أوصى (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن فيه خضوعا وخشوعا لله، فيه اعترافا بالعبودية والذل لله، فيه توسل واستغاثة بجميع أسماء الله ما يُغرف منها وما لا يعرف، ما كتب وما أخفى.
وأبشر أخي الحبيب فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج......... أبشر بخير فإن الفارج الله
إذا بليت فثق بالله وأرضى به......... إن الذي يكشف البلوى هو الله
ومن الأدعية عند النوازل والفتن والخوف ما أخرجه أبو داوود والنسائي عن أبي موسى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا خاف قوما قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
وكان يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند لقاء العدو: اللهم أنت عضدي وأنت ناصري، بك أصول وبك أجول وبك أقاتل.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين القي في النار، وقالها نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم.
فإذا كان المحيي والمميت والرزاق هو الله، فلماذا التعلق بغير الله؟
لماذا الخوف من الناس و(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك.
أيها المسلم، لا يمكن للقلب أبدا أن يسكن أو يرتاح أو يطمأن لغير الله، فاحفظ الله يحفظك وردد : ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
رأى موسى عليه السلام البحر أمامه والعدو خلفه فقال: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، إنها العناية الربانية إذا ركن إليها العبد صادقا مخلصا.
نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ويرى أقدام أعدائه على باب الغار، ويلتفت إلى صاحبه يقول: ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )، والأعجب من ذلك أنه مطارد مشرد يبشر سراقة بأنه سوف يلبس سواري كسرى، هكذا الإيمان والاعتصام بالله.
كان (صلى) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، أي إذا نزل به أم أو أصابه غم لجأ إلى الله، فزع إلى الصلاة ليلجأ إلى الله، ويشكو إلى الله، ويناجي مولاه.
إنها الثقة بالله عند الشدائد، فهو يأوي إلى ركن شديد.
فيا من وقعت بشدة أرفع يديك إلى السماء، وألح على الله بالدعاء والله يعصمك من الناس.
وإن كنتَ مظلوماً فأبشر فإن النبيَ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: وأتقِ دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
ألا قولوا لشخص قد تقوى............على ضعفي ولم يخشى رقيبه
خبأت له سهاما في الليالي............. وأرجو أن تكون له مصيبة
أيها الأخوة والأخوات، إن من أعظم البلايا وأشد الرزايا ما يصيب المسلمين في كل مكان من غزو واجتياح وتعديات ومظالم وفقر وتجويع حتى أصاب بعض النفوس الضعيفة اليأس والقنوط والإحباط وفقدان الثقة والأمل.
لماذا أيها الأخوة ؟ أليس الأمر لله من قبل ومن بعد، أليس حسبنا الله وكفى بالله حسيبا، أليس الله بقادر، أليس هو الناصر وكفى بالله نصيرا، ألا يعلم الله مكرهم، ألم يقل:
( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
أليس الله بكافي عبده: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
ألم يقل: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).
ألم يقل: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
معاشر الأخوة اسمعوا وعوا، وأعلموا وأعلنوا، إن مصيبتنا ليست بقوة عدونا، إنما هي بضعف صلتنا بربنا، وضعف ثقتنا وقلة اعتمادنا عليه، لنفتش في أنفسنا عند وقوعنا في الشدائد والمحن، أين الضراعة والشكوى لله، أين اللجاءة والمنجاة لله؟ ليس شيء أفضل عند الله من الدعاء لأن فيه إظهار الفقر والعجز، والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته وغناه.
أيها المسلمون، نريد أن تعلم فن الدعاء والتذلل والخضوع والبكاء، لنعترف بالفقر إليه، ولنظهر العجز والضعف بين يديه، أليس لنا في رسول الله قدوة، أليس لنا فيه أسوة، أوذي أشد الأذى، وكذّب أشد التكذيب، أتهم بعرضه وخدشت كرامته، وطرد من بلده، عاشا يتيما وافتقر، ومن شدةِ الجوع ربط على بطنه الحجر، قيل عنه كذابُ وساحر، ومجنونُ وشاعر، توضعُ العراقيلُ في طريقه، وسلى الجزورِ على ظهره، يشجُ رأسُه، وتكسرُ رباعيتُه، يقتلُ عمه، جمعوا عليه الأحزابَ وحاصروه، المشركون والمنافقون واليهود.
يذهبُ إلى الطائفِ يبلغُ دعوتَه فيقابلَ بالتكذيبِ والسبِ والشتمِ، ويطُردَ ويلاحقَ ويرمى بالحجارةِ فماذا فعل -بأبي هوَ وأمي- (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
أين ذهب، من يسأل، على من يشكو، إلى ذي الجبروتِ والملكوتِ، إلى القوي العزيز، فأعلن (صلى الله عليه وآله وسلم) الشكوى، ورفعَ يديه بالنجوى، دعاء وألحَ وبكاء، وتظلمَ وتألمَ وشكا، لكن اسمع لفنِ الشكوى وإظهار العجزِ والضعفِ والافتقار منه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
اللهم إليك أشكو ضعفَ قوتي وقلتَ حيلتي وهوانِ على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكِلني إلى عدوٍ يتجهمني، أم إلى قريبٍ ملكتَه أمري، إن لم تكن ساخطاً عليَ فلا أُبالي، غير أن عافيتَك أوسعُ لي، أعوذ بنورِ وجهَك الكريم، الذي أضاءت له السماوات، وأشرقت له الظلمات، وصلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة، أن تُحلَ عليَ غضبَك أو تُنزلَ علي سخَطَك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوة إلا بك. هكذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ضراعة ونجوى لربه.
أيها الأخوة، لماذا نشكو إلى الناس، ونبث الضعف والهوان والهزيمة النفسية في مجالسنا، وننسى أو نتكاسل عن الشكوى لمن بيده الأمر من قبل ومن بعد قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين َ* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).
أليس فينا من بينه وبين الله أسرار؟ أليس فينا أيها الأحبة أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، أليس فينا من يرفع يديه إلى الله في ظلمة الليل يسجد ويركع، ينتحب ويرفع الشكوى إلى الله.
فلنشكو إلى الله ولنقوي الصلة بالله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
ومن الأدعية في المصيبة والكرب والشدة والضيق ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم.
وفي رواية كان إذا حزبه أمر قال ذلك، قال النووي في شرح مسلم: هو حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة، وقال الطبراني كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب.
وأخرج أبو داوود وأحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: دعوات المكروب، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفت عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
وأخرج الترمذي عن سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوت ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعو بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
لما قالها يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت، قال الله عز وجل: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، قال ابن كثير في تفسيره: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا في هذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب بها عن سيد الأنبياء.
وأخرج مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إن لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها.
قالت فلما مات أبو سلمة قلت في نفسي أي المسلمين خير من أبي سلمة؟
أو بيت هاجر إلى رسول الله، ثم إني قلتها –أي الدعاء- فأخلف الله لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
إذا فالاسترجاع ملجأ وملاذ لذوي المصائب، ومعناه باختصار: إن لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وإن إليه راجعون إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثـنا.
إذا فالأمر كله لله، ولا ملجأ منه إلا إليه، والله عز وجل يقول: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
إليكم أيها الأحبة أمثلة ومواقف للذين لجئوا إلى حصن الإيمان وسلاح الدعاء، وأدركوا أن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء، السلاح الذي يستدفع به البلاء ويرد به شر القضاء.
عن أصبغ ابن زيد قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثا لم نطعم شيئا من الجوع، فخرجت إلي ابنتي الصغيرة وقالت يا أبتي الجوع، تشكو الجوع، قال فأتيت مكان الوضوء – انظروا إلى من اللجاءة، انظروا إلى من يلجئون- فتوضأت وصليت ركعتين، وألهمت دعاء دعوت به وفي آخره: اللهم افتح علي رزقا لا تجعل لأحد علي فيه منة، ولا لك علي فيه في الآخرة تبعة برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت إلى البيت فإذا بابنتي الكبيرة قامت إلي وقالت: يا أبه جاء رجل يقول أنه عمي بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق وحمال عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرءوا أخي السلام وقول له إذا احتجت إلى شيء فأدعو بهذا الدعاء تأتيك حاجتك.
قال أصبغ ابن زيد والله ما كان لي أخو قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير.
فقلت للفكر لما صار مضطربا.......وخانني الصبر والتفريط والجلد
دعها سماوية تمشي على قدر........لا تعترضها بأمر منك تـنفسد
فحفني بخفي اللطف خالقنا........ نعم الوكيل ونعم العون والمدد
وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعدا فقال لي أهلي قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به، قال فتوضأت – نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضوان الله عليهم- فتوضأت وكان لي صديق لا يزال يقسم علي بالله إن يكون لي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد، فذكرت ما روي عن أبي جعفر قال: من عرضت له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل، قال فدخلت المسجد فصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد أفرغ علي النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، قال فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني فيه ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله، ثم انصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن اقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم.
إن ربي لسميع الدعاء، فلا نعجب أيها الأحبة، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
وأسمع لدعا أبن القيم في الفاتحة يقول: ومكثت بمكة مدة يعتريني أدوار لا أجد لها طبيبا ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأرى لها تأثيرا عجيبا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما، فكان كثير منهم يبرأ سريعا.
وفي حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه لما قرأ على سيد الحي الفاتحة قال: فكأنما نشط من عقال، وهذا يشهد أيضا بفضل الفاتحة.
ومن المواقف الجميلة الطريفة في فضل الدعاء أنه كان لسعيد أبن جبير ديكا، كان يقوم من الليل بصياحه، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصلي سعيد قيام الليل تلك الليلة فشق عليه ذلك، فقال ماله قطع الله صوته –يعني الديك-؟
وكان سعيد مجاب الدعوة، فما سمع للديك صوت بعد ذلك الدعاء، فقالت أم سعيد:
يا بني لا تدعو على شيء بعدها.
وذكر أحد الدعاة في بعض رسائله أن رجلا من العباد كان مع أهله في الصحراء في جهة البادية، وكان عابدا قانتا منيبا ذاكرا لله، قال فانقطعت المياه المجاورة لنا وذهبت التمس ماء لأهلي فوجدت أن الغدير قد جف، فعدت إليهم ثم التمسنا الماء يمنة ويسرة فلم نجد ولو قطرة، وأدركنا الظمأ واحتاج أطفالي للماء، فتذكرت رب العزة سبحانه القريب المجيب، فقمت وتيممت واستقبلت القبلة وصليت ركعتين، ثم رفعت يدي وبكيت وسالت دموعي وسألت الله بإلحاح وتذكرت قوله:
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
قال وما هو والله إلا أن قمت من مقامي وليس في السماء من سحاب ولا غيم، وإذا بسحابة قد توسطت مكاني ومنزلي في الصحراء، واحتكمت على المكان ثم أنزلت ماءها فامتلأت الغدران من حولنا وعن يميننا وعن يسارنا فشربنا واغتسلنا وتوضئنا وحمدنا الله سبحانه وتعالى، ثم ارتحلت قليلا خلف هذا المكان وإذا الجدب والقحط، فعلمت أن الله ساقها لي بدعائي، فحمدت الله عز وجل:
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).
وذكر أيضا أن رجلا مسلما ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها، وطلب بأن تمنحه جنسية، قال فأغلقت في وجهه الأبواب، وحاول هذا الرجل كل المحاولة وستفرغ جهده وعرض الأمر على كل معارفه، فبارت الحيل وسدت السبل، ثم لقي عالما ورعا فشكا إليه الحال، فقال له عليك بالثلث الأخير من الليل فأدعو مولاك، إنه الميسر سبحانه وتعالى، قال هذا الرجل: ووالله فقد تركت الذهاب إلى الناس وطلب الشفاعات، وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني ذلك العالم، وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه، وما هو إلا بعد أيام وتقدمت بمعروض عادي ولم اجعل بيني وبينهم واسطة فذهب هذا الخطاب وما هو إلا أيام وفوجئت وأنا في بيتي أني ادعى وأسلم الجنسية، وكنت في ظروف صعبة.
إن الله سميع مجيب، ولطيف قريب، لكن التقصير منا، لابد أن نلج على الله وندعوه، وابشروا:
(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
وأذكر أن طالبا متميز في دراسته حصل له ظرف في ليلة امتحان إحدى المواد، ولم يستطع أن يذاكر جميع المنهج المقرر للمادة إلا بقدر الثلث، فأهتم لذلك واغتم وضاقت عليه نفسه، ولم يستطع الإفادة من باقي الوقت لاضطراب النفس وطول المنهج.
فما كان منه إلا أن توضأ وصلى ركعتين وألح على الله بأسمائه وصفاته وباسمه الأعظم، يقول الطالب فدخلت قاعة الامتحان ووزعت أوراق الأسئلة، وقبل أن انظر فيها دعوت الله ورددت بعض الأذكار، ثم قلبت الورقة فإذا الأسئلة أكثرها من ذلك الثلث الذي درسته، فبدأت بالإجابة ففتح الله علي فتحا عجيبا لم ك أتصوره، ولكن ربي سميع مجيب.
فإلى كل الطلاب والطالبات أقول:
لماذا غفلتم عن الدعاء والشكوى لله وأنتم تشكون لبعضكم وتزفرون وتتوجعون ؟
لماذا يعتمد الكثير منكم على نفسه وذكائه، بل ربما اعتمد البعض على الغش والاحتيال.
إن النفس مهما بلغت من الكمال والذكاء فإنها ضعيفة وهي عرضة للغفلة والنسيان، نعم لنفعل الأسباب ولنحفظ ولنذاكر ولنجتهد ولكن كلها لا شيء إن لم يعينك الله ويفتح عليك، فلا حول ولا قوة إلا بالله في كل شيء، فهل طلبت العون من الله، توكل على الله، وافعل الأسباب، وارفع يديك إلى السماء وقل:
يا سامعا لكل شكوى، وأظهر ضعفك وفقرك لله وسترى النتائج بأذن الله.
وأنت أيها المدرس والمدرسة، بل ويا كل داعية لماذا نعتمد على أنفسنا الضعيفة في التوجيه والتعليم، هب أننا أعددنا الدرس جيدا وفعلنا كل الأسباب، هل يكفي هذا؟
لعلك تسأل ما بقي؟
أقول هل سألت الله العون والتوفيق عند تحضير الدرس؟
هل سألت الله أن يفتح لك القلوب وأن يبارك في كلماتك وأن ينفع بها؟
هل سألت الله العون والتوفيق وأنت تلقي الدرس؟
هل دعوت لطلابك أن يبارك الله لهم وأن ينفع بهم وأن يصلحهم وأن ييسر عليهم.
هذه بعض الأمثلة والمواقف، وما يعرف ويحكى أكثر وأكثر، ولكننا نريد العمل والتطبيق.
تنبيه مهم:
كثير من الناس إذا وقع بشدة عمد إلى الحرام، كمن يذهب للسحرة والكهان، أو يتعامل بالربا والحرام، فإذا نصح أو ذكّر قال: أنه مضطر، أو كما يقول البعض ليس كمن رجله في النار كمن رجله في الماء.
ولعلي أيها الحبيب أذكرك بآية ربما أنك نسّيتها في خضم المصيبة والشدة التي وقعت فيها، إن الله عز وجل يقول: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)،والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدنيا إلى اللجأ والتضرع إلى الله كما يقول الزمخشري.
وأنت أيها الأخ، أو أيتها الأخت، تذكر أنك مضطر والمضطر وعده الله بالإجابة حتى وإن كان فاسقا، فإذا كان الله قد أجاب دعوة المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمسلمين مع تقصيرهم من باب أولى.
جاء رجل إلى مالك ابن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر، قال فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
إن الله قد عز وجل قد ذم من لا يستكين له، ولا يتضرع إليه عند الشدائد، وانتبهوا أيها الأحبة أنه لابد للضراعة والاستكانة لله عند الشدة كما أخبر الله فقال عز من قائل:
(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ).
أي لو استكانوا لربهم لكان أمرا أخر، فكيف بحال من يقع بالشرك والحرام عند البلاء والشدة فيزيد الطين بلة، كيف يريد الشفاء أو انكشاف البلاء وهو يطلبه من مخلوقين مثله ضعفاء.
قال بعض السلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة أن الله عز وجل يقول: يؤمل غيري للشدائد والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أملني لنائبة فقطعن به؟
أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه ؟
ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له ؟
أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني.
أبخيل أنا فيبخلني عبدي، أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي ؟
فما يمنع المؤملين أن يؤملوني، ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه، فيا بأسا للقانطين من رحمتي، ويا بأسا لمن عصاني ووثب على محارمي. ذكر ذل ابن رجب في نور الاقتباس، والإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليه كما يقول شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله.
أيها الأخوة إن اللهَ يحبُ أن يُسأل، ويغضبُ على من لا يسألُه، فإنه يريدُ من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه، ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحبُ الملحين في الدعاء، بل وينادي في كلِ ليلةٍ : هل من سأل فأعطيه، هل من داعٍ فأستجيب له.
فأين المضطرون، أين أصحابُ الحاجات، أين من وقع في الشدائدِ والكُربات.
معاشر الأخوة والأخوات، اقرءوا وانظروا في حادثة الإفك، وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار، وحديث المغترب الذي وضع المال في الخشبة وألقاها في البحر، وحديث الثلاثة الذين خلفوا، وغيرها من القصص النبوي في الصحاح والسنن، فرج عنهم بسؤالهم لله، وإلحاحهم بالدعاء، رفعوا أيديهم إلى الله، وأعلنوا الخضوع والذل لله، وهذا الذل لا يصلح إلى لله، لحبيبه ومولاه.
ذل الفتى في الحب مكرمة....... وخضوعه لحبيبه شرف
فالعبوديةُ لله عزٌ ورفعةٌ، ولغيره ذلٌ ومهانة، وفي سؤال الله عبودية عظيمة لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج.
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا......فأبذله للمتكرم المفضال
كان يحي ابن معاذ يقول: يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من سألك.
وكان بكر المزني يقول: من مثل يا ابن آدم؟ متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان.
وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إلى بعض المخلوقين، فقال له أنا لا أترع بابا مفتوحا وأذهب إلى باب مغلق.
هكذا فلتكن الثقة بالله والتوكل على الله.
وقبل الختام وحتى نصل إلى ما نريد من فن الشكوى وحسن النجوى تنبه إلى هذه التوجيهات:
أولا: الدعاء له آداب وشروط:
لابد من تعلمها والحرص عليها، واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس من ابن القيم رحمه الله قال: وإذا جمع العبد مع الدعاء حضور القلب وصادف وقتا من أوقات الإجابة وخشوعا في القلب وانكسارا بين يدي الرب وذلا له وتضرعا ورقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على رسول الله، ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقة فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا، ولا سيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها مظنة الإجابة، وأنها متضمنة للإسم الأعظم. انتهى كلامه بتصرف.
ثانيا: الصدقة:
وقد أكد عليها أبن القيم في كلامه السابق، ولها أثر عجيب في قبول الدعاء، بل وفعل المعروف أيا كان وصنائع المعروف تقي مصارع السوء كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والله عز وجل يقول عن يونس عليه السلام: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
ثالثا: عليك بالصبر وإياك واليأس والقنوط:
وفي هذا توجيهات منها أن تعلم أن الدعاء عبادة، ولو لم يتوفر لك من دعائك إلا الأجر على هذا الدعاء بعد إخلاصك لله عز وجل فيه لكفى، ومنها أن تعلم أن أعلم بمصلحتك منك، فيعلم سبحانه أن مصلحتك بتأجيل الإجابة أو عدمها، ومنها لا تجزع من عدم الإجابة فربما دُفع عنك بهذا الدعاء شرا كان سينزل بك، فعن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا أتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم إذا نكثر، قال الله أكثر. وزاد فيه الحاكم: أو يدخر له من الأجر مثلها.
رابعا:ربما كان عدم الإجابة أو تأخيرها امتحان لصبرك وتحملك وجلدك:
وهل تستمر في الدعاء وفي هذه العبادة، أم تستحسر وتمل وتترك الدعاء، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يستجاب لأحكم ما لم يعجل يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي.
وفي رواية لمسلم قيل: يا رسول الله ماالاستعجال؟ قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء.
خامسا: أن تلقي باللوم على نفسك:
وهي من أهمها، فقد يمون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي، أو التقصير وإخلالك بالدعاء أو تعديك فيه، فمن أعظم الأمور أن تتهم نفسك وتنسب التقصير وعدم الإجابة لنفسك، فهذا من أعظم الذل والافتقار لله.
وأسمع أيضا لهذا الكلام الجميل النفيس لأبن رجب رحمه الله يقول: إن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إلى نفسه باللائمة يقول لها إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خيرا لأُجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه، فلذلك يسرع إليه حين إذ إجابة الدعاء، وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر. انتهى كلامه.
سادسا: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة:
قال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعاء في السراء، فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعا في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت ليس بمعروف.
أيها الأخوة، وأنا أتأمل في حديث الثلاثة أصحاب الغار وهم يدعون ويتوسلون إلى الله بصالح أعمالهم وأخلصها لله، أقول في نفسي وأفتش فيها أين ذلك العمل الصالح الخالص لله الخالي من حظوظ النفس، الذي سألجأ إلى الله فيه عند الشدة.
فلنرجع لأنفسنا ولنسألها مثل هذا السؤال، لنبحث في أعمالنا وعن الإخلاص لله فيها، ولنكن على صلة بالله في الرخاء، وصدق من قال:
إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد......ذخرا يكون كصالح الأعمال
سابعا: إن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان بالله تعالى:
وفيه اطمئنان للنفس وراحة للقلب، فأعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطئك لم يكن ليصيبك، وتذكر دائما أن كل شيء بقضاء وقدر، وأنه من عند الله.
ثامنا: أحرص على أكل الحلال فهو شرط من شروط إجابة الدعاء:
وفي الحديث: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنا يستجاب له.
فالله الله بالحلال فإن له أثر عجيب في إجابة الدعاء، ربما قصرنا بوظائفنا، أي نوع من التقصير، وكان ذلك التقصير سبب في رد الدعاء أو إجابته، فلنتنبه لهذا أيها الأحبة.
تاسعا: حتى تكون مجاب للدعوة إن شاء الله أكثر من الاستغفار في الليل والنهار:
فلو لم يكن فيه إلا قول الحق عز وجل: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً)، فأين من يشكو الفقر والعقم والقحط عن هذه الآية.
هذه توجيهات أنتبه إليها قبل أن ترفع يديك إلى السماء لتكن مجاب الدعاء إن شاء الله.
إلى كل مصاب ومنكوب، وإلى كل من وقع في شدة وضيق أقول:
اطمأنوا فقد سبقكم أناس في هذا الطريق، وما هي إلا أيام سرعان ما تنقضي، وفي بطون الكتب المصنفة في الفرج بعد الشدة للتنوخي وأبن أبي الدنيا والسيوطي وغيرهم مئات القصص لمن مرضوا أو افتقروا أو عذبوا أو شردوا أو حبسوا أو عزلوا، ثم جاءهم الفرج ساقه لهم السميع المجيب.
فلك في المصابين أسوة قال ابن القيم في زاد المعاد كلام جميل أيضا فأسمعه:
قال ومن علاجه – أي علاج المصيبة- أن يطفأ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة، وأنه لو فتش العلم لم يرى فيهم إلا مبتلى إما بفوت محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما ساءت دهرا، وإن متعت قليلا منعت طويلا، وما ملئت دارا حبرة –أي سعادة- إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور.
أيها الأخوة والأخوات، قصص القرآن والأحاديث في كتب السنة والقصص والمواقف في كتب الفرج بعد الشدة، والأحداث والعبر في واقعنا المعاصر جميعها تخبرنا أن الشدائد مهما طالت لا تدوم على أصحابها.
إذا اشتملت على اليأس القلوب......وضاقت لما به الصدر الرحيب
و أوطنت المكاره واطمأنت..........وأرست غي أماكنها الخطوب
ولم ترى لانكشاف الضر وجها.....ولا أغني بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث........ يجيء به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت......... فموصول بها الفرج القريب
ولو لم يكن في المصائب والبلايا إلا أنها سبب لتكفير الذنوب، وكسر لجماح النفس وغرورها، ونيل للثواب بالصبر عليها وتذكير بالعمة التي غفل عن شكرها.
وهي تذكر العبد بذنوبه، فربما تاب وأقلع عنها.
وهي تجلب عطف الناس ووقوفهم مع المصاب، بل من أعظم ثمار المصيبة أن يتوجه العبد بقلبه إلى الله، ويقف بابه ويتضرع إليه، فسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء.
فالبلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات للمخلوقين ويوجب له الإقبال على الخالق وحده، وهذا هو الإخلاص والتوحيد.
فإذا علم العبد أن هذه من ثمار المصيبة أنس بها وارتاح ولم ينزعج، ولم يقنط، فإلى ذوي المصائب والحاجات والشدائد والكربات إن منهج القرآن يقول:
( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
بل اسمعوا إلى هذه الآية العجيبة ففيها عزاء وتطمين لكل المسلمين قال تعالى:
( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).
فلماذا التسخط والجزع والشكوى والأنين فلعل في ما حصل خيرا لك فتفاءل وأبشر، واعتمد على الله وارفع يديك إلى السماء وقل: يا سامعا لكل شكوى.
واحسن الظن بالله وقل:
صبرا جميلا ما أسرع الفرج
من صدق الله في الأمور نجى
من خشي الله لم ينله أذى
من رجا الله كان حيث رجا
هذه كلمات لتسلية المحزونين، وتفريج كرب الملذوعين، وهي عزاء للمصابين وتطييب للمنكسرين.
أسأل الله أن ينفع بها المسلمين وأن يغفر لي ولك أجمعين.
فيا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى.
يا سابغ النعم، ويا دفع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كشف الظلل، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا ولي من ظُلم.
يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه الليل ويشرق عليه النهار.
كم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قل عندها صبرنا، فيا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا، ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يخذلنا أقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك حتى لا نرجو أحدا غيرك.
اللهم إنا نسألك إيمانا ثابتا، ويقينا صادقا حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا، اللهم لا نهلك وأنت رجائنا، اللهم لا نهلك وأنت رجائنا احرسنا بعينك التي لا تنام وبركنك الذي لا يرام.
يا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى، يا كاشف كربتنا، ويا مستمع دعوتنا، ويا راحم عبرتنا، ويا مقيل عثرتنا.
يا رب البيت العتيق أكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق، واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق، اللهم فرج عنا وعن المسلمين كل هم غم، وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب.
يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا منزل القطر، يا مجيب دعوت المضطر، يا سامعا لكل نجوى احفظ إيمان وأمن بلادنا، ووفق ولاة الأمر لما فيه صلاح الإسلام والعباد.
يا كاشف كل ضر وبلية، ويا عالم كل سر وخفية نسألك فرجا قريبا للمسلمين، وصبرا جميلا للمستضعفين، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدا، ويا ذا النعم التي لا تحصى أبدا، أسألك أن تصلي على محمد وعلى آلي محمد أبدا.
اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
- الاستئذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك إلى قيام الساعة.
في اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الـجـليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
أخي الحبيب لا تحرمنا من دعوة صالحة في ظهر الغيب..
| | |
13 - 9 - 2014, 02:19 PM
|
#76 |    
رد: مدونة المحاضرات والخطب الاسلامية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .... أما بعد ..أحبتي في الله ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... هذه محاضرة بعنوان " غثاء الألسنة ".
والغثاء بالمد والضم : ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره , وغثاء الألسنة من أراذل الناس وسقطهم , والغث هو الرديء من كل شيء، وغث حديث القوم أي فسد وردئ , وأغث فلان في الحديث أي جاء بكلام غث لا معنى له.
وما أكثر الكلام الفاسد الذي يدور في مجالس المسلمين أياً كانوا , كباراً أم صغاراً , رجالاً أو نساءً , إن غثاء الألسنة اليوم يزكم الأنوف ويصم الأذان ويصيبك بالدوار والغثيان , وأنت تسمع حديث المجالس اليوم لا نقول ذلك في مجالس العامة ودهماء الناس فقط , بل وللأسف وأقولها بكل أسى حتى في مجالس الصالحين ومجالس المعلمين والمتعلمين.
غثاء الألسنة في الكذب والغش والخداع والنفاق.
غثاء الألسنة في الغيبة والنميمة والقيل والقال.
غثاء الألسنة في أعراض الصالحين والمصلحين والدعاة والعلماء في الوقت الذي سلم فيه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والرافضين والمنافقين.
غثاء الألسنة في التدليس والتلبيس وتزييف الحقائق وتقليب الأمور.
غثاء الألسنة في التجريح والهمز واللمز وسوء الظن.
غثاء الألسنة في الدخول في المقاصد والنيات وفقه الباطن.
غثاء الألسنة في كل ما تحمله هذه الكلمة من غثائيةٍ وغث وغثيثٍ وغثيان , وما هي النتيجة ؟
النتيجة هي بث الوهن والفرقة والخصام والتنازع بين المسلمين وقطع الطريق على العاملين , وإخماد العزائم بالقيل والقال , إنك ما إن ترى الرجل حسن المظهر و سيماه الخير وقد تمسك بالسنة في ظاهره إلا وتقع الهيبة في قلبك والاحترام والتقدير في نفسك , وما أن يتكلم فيجرح فلان ويعرّض بعلان و ينتقص عمراً ويصنف زيداً , إلا وتنـزع مهابته من قلبك ويسقط من عينيك وإن كان حقاً ما يقول , وإن كان صادقاً فيه فلا حاجة شرعية دعت لذلك , وإن دعت الحاجة فبالضوابط الشرعية والقواعد الحديثية.
فإن لم تعلمها أخي المسلم فلا أستطيع أن أقول إلا "أمسك عليك لسانك" , إن المصنفات في الجرح والتعديل مئات المجلدات , لكن اقرأ فيها وتمعن فيها , وكيف كان الجرح فيها ؟ فشتان بين الجرحين .
لقد كان خوف الله عز وجل ميزاناً دقيقاً لألسنتهم رحمهم الله تعالى,وكان هدفهم هو تمييز صحيح السنة من سقيمها, ولكن ما هو الهدف اليوم ؟
نعوذ بالله من الهوى ومن الحسد ومن الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق.
أيها الأخ المسلم .. إلى متى ونحن نجهل أو نتجاهل أو نغفل أو نتغافل عن خطورة هذا اللسان ؟ مهما كان صلاحك ومهما كانت عبادتك ومهما كان خيرك ومهما كان علمك ومهما كانت نيتك ومهما كان قصدك.
فرحم الله ابن القيم رحمة واسعة يوم أن قال في "الجواب الكافي " :
(من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والسرقة وشرب الخمر والنظر المحرم وغير ذلك , ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه !! حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً , يزل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق والمغرب والعياذ بالله).
وقال أيضاً في الكتاب نفسه :
( إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها , ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله تعالى وما اتصل به ).
وما أجمل ذلك الكلام !! ولذلك أقول أيها الأخ الحبيب احذر لسانك وانتبه للسانك واحبس لسانك وأمسك عليك لسانك وهو جزء من حديث نبوي أخرجه الترمذي في سننه وأحمد في مسنده وابن المبارك والطبراني وغيره من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال :
( قلت : يا رسول الله ما النجاة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " املك عليك لسانك وليسعك بيتك وابكِ على خطيئتك " وفي لفظ : " أمسك عليك لسانك ) والحديث صحيح بشواهده.
وأنا هنا لا أدعوك للعزلة وإنما أقول أمسك عليك لسانك إلا من خير , كما في الحديث الآخر:
( فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير) والحديث رواه أحمد وابن حبان وغيرهما .
وحفظ اللسان على الناس أشد من حفظ الدراهم والدنانير كما يقول محمد بن واسع رحمه الله تعالى , ولأن كثرة الكلام تذهب بالوقار ومن كثر كلامه كثر سقطه ولأننا نرى الناس قد أطلقوا العنان لألسنتهم فأصبح ذلك اللسان سلاحاً لبث الفرقة والنـزاع والخصام وفي مجالات الحياة كلها وبين النساء والرجال على السواء ولكثرة الجلسات والدوريات والاستراحات , ولأن الكلام فاكهة هذه الجلسات , كان لا بد من وضع ضابط ولا بد من تحذيرٍ وتذكيرٍ للناس في مثل هذه الجلسات ولأنك ستسمع الكثير إن شاء الله من الأسباب التي جعلتني أختار مثل هذا الموضوع من خلال هذه العناصر :
- خطر اللسان.
- أدلة من السنة والكتاب.
- السلف الصالح مع اللسان.
- صور من الواقع.
- النتيجة النهائية.
واسمع قبل ذلك كلاماً جميلاً جداً للإمام النووي رحمه الله في كتاب الأذكار يوم أن قال فصل:
( اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلام تظهر المصلحة فيه ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة ). انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
اسمع للفقه، اسمع لفقههم رحمهم الله تعالى " ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة " يعني كان قول الكلام أو تركه بمصلحةٍ واحدة، فالسنة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه , بل هذا كثير وغالباً في العادة والسلامة لا يعدلها شيء.
خطر اللسان :- أدلة من الكتاب والسنة :
هل قرأت القرآن ومرّ بك قوله عز وجل : ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18)
هل تفكرت في هذه الآية ؟ إنها الضابط الشرعي ( لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (قّ:37).
أسمعت أيها الإنسان ؟ أسمعت أيها المسكين ؟ إنها رقابة شديدة دقيقة رهيبة تطبق عليك إطباقاً شاملاً كاملاً , لا تـُغفل من أمرك دقيقاً ولا جليلاً , ولا تفارقك كثيراً ولا قليلاً , كل نفَس معدود , وكل هاجسة معلومة وكل لفظ مكتوب وكل حركة محسوبة في كل وقت وكل حال وفي أي مكان , عندها قل ما شئت وحدث بما شئت وتكلم بمن شئت ولكن اعلم أن هناك من يراقبك , اعلم أن هناك من يسجل وأنه يعد عليك الألفاظ :
( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:17- 18).
إنها تعنيك أيها الإنسان إنها تعنيك أنت أيها المسلم , ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) هذه الآيات والله إنها لتهز النفس هزاً وترجها رجاً وتثير فيها رعشة الخوف,الخوف من الله عز وجل , قال ابن عباس :
( يكتب كل ما تكلم به من خير وشر حتى أنه ليكتب قولك : أكلتُ , شربتُ , ذهبت, جئت, رأيت .. حتى إذا كان يوم الخميس عُرض قوله وعمله فأقِر منه ما كان من خير وشر وألقي سائره ).
واسمع للآيات من كتاب الله عز وجل تقرع سمعك وتهز قلبك إن كان قلباً مؤمناً يخاف الله عز وجل:
( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار: 12)
( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58).
( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36).
( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور:24).
وأخيرا قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر:14). فربك راصد ومسجل لكلماتك ولا يضيع عند الله شيء.
أما أنت أيها المؤمن , أما أنت يا من يقال عنك ويدور عنك الحديث في المجالس , أما أنت أيها المظلوم فإن لك بهذه الآية تطميناً فلا تخف ولا تجزع فإن ربك بالمرصاد لمن أطلقوا العنان لألسنتهم في أعراض العباد , بالمرصاد للطغيان والفساد والشر , فلا تجزع بعد ذلك أيها الأخ الحبيب.
ولتـزداد بيّنة في خطر هذا اللسان الذي بين لحييك فاسمع لهذه الأحاديث باختصار:
فعن بلال بن حارث المزني رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه , وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة )." والعياذ بالله .. والحديث أخرجه البخاري.
وكان علقمة يقول كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث)، أي هذا الحديث، اسمع لحرصهم رضي الله عنهم وأرضاهم، كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره فأين أنت يا علقمة من الذين يلقون الكلمات على عواهلها فلا يحسبون لها حساباً , كم نلقي أيها الأحبة , كم نلقي أيها المسلم من كلمات نظن أنها ذهبت أدراج الرياح وهي عند ربك في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى فاحسب لهذا الأمر حسابه حتى تعلم أن كل كلمة مسجلة عليك أيها الأخ الحبيب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق) والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وفي رواية مسلم ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
أسألك العفو يا إلهي .. إن شغلنا الشاغل في مجالسنا اليوم أيها الأحبة هو بث الكلمات ونشر الشائعات وكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم , ولا شك أن فساد المجالس بسبب قلة العلم والاطلاع , إذ لو وُجد أو أوجد هذا العلم لاستغلت المجالس أحسن استغلال ولسمعت النكت العلمية والفوائد الشرعية والمسائل الفقهية بدلاً عن القيل والقال والغرائب والعجائب ولكن فاقد الشيء لا يعطيه.
وهذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى اليوم بين كثير من الناس , إسهال فكري وإسهال كلامي أصاب مجالس المسلمين اليوم إنك تجلس الكثير من المجالس وربما لم يمر عليك يوم من الأيام وليلة من الليالي إلا وجلست مجلساً فبماذا خرجت من هذه المجالس؟
ما هي النتيجة ؟
ما هي الثمرة من هذه المجالس التي جلستها ؟
أيها الأخ الحبيب , لا شك أن هذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى في صفوف المسلمين اليوم وقلة البركة حيث أصبح العلم مصدر رزق الكثير من الناس ولذلك تجد في المجلس الواحد عشرات المدرسين والمتعلمين ومع ذلك يذهب المجلس هباءً بدون فائدة , بل ربما ذهب والعياذ بالله بالآثام وجمع السيئات.
وفي حديث معاذ الطويل قال رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟" قال معاذ : بلى يا رسول الله , فأخذ بلسانه ثم قال).
انظر الوصية .. أخذ بلسانه ثم قال :
( "كف عليك هذا" قلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟)
بعض الناس قد يجهل أنه سيؤاخذ بكل كلمة تكلم بها سواءً خير أو شر.
(وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟" قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ثكلتك أمك يا معاذ , وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟" والحديث أخرجه الترمذي في سننه وقال حسن صحيح.
وفي حديث سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه.
وفي آخر حديث سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال في آخره قلت يا رسول الله , ما أخوف ما تخاف عليّ ؟ فأخذ بلسان نفسه وقال :"هذا" ) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده والترمذي في سننه وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
ثم يوجه المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته تلك القاعدة الشرعية والمعيار الدقيق ولمن اختلطت عليه الأوراق وليقطع الشك باليقين وليسلم من الحيرة والتردد فيقول كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
قاعدة شرعية تربوية منهجية نبوية ميزان معيار دقيق لك أيها المسلم ولكِ أيتها المسلمة يوم تجلس مجلساً "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" انظر للتربية ربط هذه القلوب باليوم الآخر "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" .. ولأن النفوس اليوم غفلت عن اليوم الآخر وتعلقت بالدنيا وشهواتها ولذاتها غفلت عن هذه القاعدة الشرعية النبوية ونسيت الحساب والعذاب ونسيت الجنة والنار وغفلت عنها .. وبالتالي انطلق اللسان يفري في لحوم العباد فرياً بدون ضوابط وبدون خوفٍ ولا وجل .. لماذا هذه القاعدة ؟
لأنه لا يصح أبداً أن يؤذي المسلم إخوانه بلسانه ولأن المسلم الصادق المحب الناصح هو من سلم المسلمون من لسانه ويده (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) كما في حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه.
والأحاديث في الباب كثيرة مستفيضة.
وكم نحن بحاجة لمن يردد هذه الأحاديث على مسامع الناس , كم نحن بحاجة أيها الأخيار , يا طلبة العلم , أيها الصالحون , كم نحن بحاجة أيتها الصالحات , يا أيتها القانتات الخائفات العابدات الساجدات , كم نحن بحاجة إلى من يردد على المسلمين والمسلمات أمثال هذه الأحاديث ليتذكروها ويعوها وليفهموها جيداً , حتى تتذكر النفس كلما أراد اللسان أن ينطلق بكلمة يحسب لها حسابها قبل أن يخرج لسانه بهذه الكلمات.
واسمع لرواة هذه الأحاديث من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يوم أن سمعوها علماً وعملاً وامتثالاً للمصادر الشرعية "الكتاب والسنة" .. وإليك الأدلة من حياتهم العملية رضوان الله عليهم.
السلف الصالح مع اللسان :
أسوق إليك أيها الأخ الحبيب مواقف قليلة جداً عن حال السلف مع ألسنتهم:
ذكر الإمام مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه دخل على أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وهو يجبذ لسانه أي يجره بشدة، فقال عمر: ( مَـه !! غفر الله لك " فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه : "إن هذا أوردني الموارد"). من القائل ؟ الرجل الأول بعد الأنبياء والرسل رضي الله عنه وأرضاه , القائل أبو بكر , انظر إلى حرصه على لسانه رضي الله عنه وأرضاه ..
قال رجل : رأيت ابن عباس آخذاً بثمرة لسانه وهو يقول: ( ويحك , قل خيراً تغنم واسكت عن شرٍ تسلم. قال : فقال له الرجل : يا ابن عباس , مالي أراك آخذاً بثمرة لسانك وتقول كذا وكذا ؟ .. قال ابن عباس : بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيءٍ أحنق منه على لسانه، يعني لا يغضب على شيءٍ من جوارحه أشد من غضبه على لسانه)، والأثر أخرجه ابن المبارك وأحمد وأبو نعيم وأيضاً أخرجه أحمد في كتاب الزهد , والمتن بجميع طرقه حسن والله أعلم.
وقال عبد الله بن أبي زكريا: ( عالجت الصمت عشرين سنة – انظر للحساب .. انظر محاسبة النفس – عالجت الصمت عشرين سنة فلم أقدر منه على ما أريد )، وكان لا يدع يعاتب في مجلسه أحد , ويقول : ( إن ذكرتم الله أعنـّاكم , وإن ذكرتم الناس تركناكم )، انظر للضابط " إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم.
وكان طاووس بن كيسان رضي الله عنه يعتذر من طول السكوت ويقول: ( إني جربت لساني فوجدته لئيماً راضعاً). هؤلاء هم رضي الله عنهم .. فماذا نقول نحن عن ألسنتنا ؟!
وذكر هناد ابن السري في كتابه الزهد بسنده إلى الحسن أنه قال : ( يخشون أن يكون قولنا "حميد الطويل" غيبة لأنهم بينوه ونسبوه أنه طويل ). حميد الطويل يخشون أن تكون غيبة, رحمة الله عليهم أجمعين.
وأخرج وكيع في الزهد وأبو نعيم في الحلية من طريق جرير بن حازم قال : ( ذكر ابن سيرين رجلاً فقال : ذلك الرجل الأسود .. يريد أن يعرّفه .. ثم قال : أستغفر الله , إني أراني قد اغتبته).
وكان عبد الله بن وهب رحمه الله يقول : ( نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً فأجهدني – يعني تعبت – فكنت أغتاب وأصوم أغتاب وأصوم .. فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة)، جرب هذا , كلما اغتبت أحداً أو ذكرته بسوءٍ فادفع ولو ريالاً واحداً .. الله أعلم بحالنا .. في آخر الشهر لن يبقى من الراتب ولو ريال واحد .. لأنا أعرف بأنفسنا في المجالس أيها الأحبة، والله المستعان !
قال النووي في الأذكار : بلغنا أن قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا , فقال أحدهما لصاحبه : (كم وجدت في ابن آدم من العيوب ؟ فقال : هي أكثر من أن تحصى , والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب, فوجدت خصلة إن استعملتها سترت العيوب كلها .. قال : ما هي ؟ قال : حفظ اللسان !!)
قال إبراهيم التيمي : (أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمع منه كلمة تعاب).
وقيل للربيع : ( ألا تذم الناس ؟ قال : والله إني ما أنا عن نفسي براضٍ فأذم الناس ؟ إن الناس خافوا الله على ذنوب الناس , وأمنوه على ذنوبهم)، وصدق رحمه الله , صدق.
ألا ترون أيها الأحبة في مجالسنا نقول : نخشى عذاب الله من فعل فلان , ونخاف من عقاب الله من قول علان , ولا نخشى الله من قولنا وفعلنا .. وهذا ظاهر في مجالسنا نقول : نخشى من عذاب الله من عمل فلان وعلان , ولكننا ننسى أن نخاف على أنفسنا من عذاب الله من ذنوبنا وأفعالنا وأقوالنا.
ارجع لنفسك وانظر لعيوبها قبل أن تنظر لعيوب الآخرين وتتكلم فيهم.
وقال حماد بن زيد : ( بلغني أن محمد بن واسع كان في مجلس فتكلم رجل فأكثر الكلام , فقال له محمد : ما على أحدهم لو سكت فتنقى وتوقى). أي اختار كلماته وحسب لها حسابها.
وقال بكر بن المنير سمعت أبا عبد الله البخاري يقول ( أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً )، اسمع للثقة، والبخاري له كتب في الجرح والتعديل، ويقول الذهبي في السير معلقاً على قول البخاري هذا صدق رحمه الله .. ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه في من يضعفه فإن أكثر ما يقول – يعني أشد ما يقول البخاري إذا أراد أن يجرح رجلاً – يقول : منكر الحديث , سكتوا عنه , فيه نظر , ونحو هذا، وقلّ أن يقول فلان كذاب , أو كان يضع الحديث ,حتى أنه قال : إذا قلت "فلان في حديثه نظر" فهو متهم واهن , وهذا معنى قوله " لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً " وهذا هو والله غاية الورع ) انتهى كلام الذهبي.
هذا موقف السلف الصالح رضوان الله عليهم مع اللسان , والآن تعال إلى صورٍ من الواقع وهي عبارة عن مواقف مبعثرة وأحداثٍ متعددة تتكرر في مجالسنا كثيراً , اخترت منها عشرة مشاهد , أسوقها إليك فأصغ لي سمعك وفهمك وأحسن الظن فيّ فلعلي لا أحسن التصوير أو ربما خانني التعبير , ما أريد يعلم الله إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.
ومن الصور المشاهدة في مجالسنا:
وأولى هذه الصور :
حديث العامة أن فلاناً فيه أخطاء، وفلان آخر فيه تقصير، والثالث فيه غفلة، والرابع لا يسلم من العيب الفلاني .. وهكذا .. أقاموا أنفسهم لتقييم الآخرين وجرحهم ولمزهم .. فيا سبحان الله !!
نسينا أنفسنا , نسينا عيوبنا وتقصيرنا وغفلتنا وكثرة أخطائنا , ولو أعمل عاقل فكره في الجالسين أنفسهم لوجدنا فيهم البذاءة وسوءاً في المعاملة والأخلاق , فهو إن حدث كذب وإن وعد أخلف , أو باع واشترى فغش وخداع، وإن جاء للصلاة نقرها نقر غراب مقصر في الفرائض مهمل في النوافل , في وظيفته تأخر وهروب وإهمال واحتيال، وفي بيته وسائل الفساد وضياع الأولاد وعقوق للأرحام , كل هذه النقائص والمصائب عميت عليه فنسيها في نفسه وذكرها في إخوانه فلم يسلم منه حتى ولا الصالحون المخلصون.
فيا أيها الأخ , والله إني عليك لمشفق ولك محب فأمسك عليك لسانك وكف عن أعراض الناس وإذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك، كما قال ابن عباس، وقال أبو هريرة: ( يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجل في عينه ).
وقال عون بن عبد الله : ( ما أحسب أحداً تفرغ لعيوب الناس إلا من غفلةٍ غفلها عن نفسه).
وقال بكر بن عبد الله المزني إذا رأيتم الرجل مولعاً بعيوب الناس ناسياً لعيوبه – أو لعيبه – فاعلموا أنه قد مـُكـِر به ).
إذا رمت أن تحيا سليماً من الردى ........ ودينك موفور وعرضك صيّن
فلا ينطقن منك اللسان بسوءةٍ ........... فكلك سوءاتٍ وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معائباً ............ فدعها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ...... ودافع ولكن بالتي هي أحسن
صورة ثانية من الصور التي تقع في واقعنا :
جلسوا مجلسهم فبدأ الحديث فذكروا زيداً وأن فيه وفيه ثم ذكروا قول عمرو فأتقنوا فن الهمز واللمز , والعجيب أن معهم فلاناً العابد الزاهد القائم الصائم والأعجب أن من بينهم طالب العلم فلاناً الناصح الأمين , والحمد لله لم يتكلما وسكتا , ولكنهما ما سلما لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس , ولأن المستمع شريك للقائل ما لم يتبع المنهج الشرعي: ( من ردّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار )، هذا هو المنهج الشرعي والحديث أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث أبي الدرداء والحديث حسن.
فيا أيها المسلم إذا وقع في أحدٍ وأنت في ملأ فكن له ناصراً وللقوم زاجراً وانصر أخاك ظالماً أو مظلوماً وقل للمتحدث "أمسك عليك لسانك" فإن استجابوا وإلا فقم عنهم : ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات:12).
واسمع لكلام ابن الجوزي الجميل في تلبيس إبليس قال رحمه الله تعالى : ( وكم من ساكت عن غيبة المسلمين , إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه وهو آثم من ذلك بثلاثة وجوه :- أحدها : الفرح فإنه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب , والثاني : لسروره بثلب المسلمين , والثالث : أنه لا ينكره) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى : ( ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى - انتبه إلى هذا الكلام الجميل النفيس – تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول : لي ليس عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله , ويقول : والله إنه مسكين أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت وربما يقول : دعونا منه الله يغفر لنا وله .. وإنما قصده استنقاصه وهضم لجنابه .. ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقاً وقد رأينا منهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه) انتهى كلامه رحمه الله.
صورة ثالثة : اتهام النيات والدخول في المقاصد من أخطر آفات اللسان , يتبعه تبديع الخلق وتصنيف الناس وتقسيمهم إلى أحزاب وهم منها براء وقد يتبع ذلك أيمان مغلظة وأقسام وأحلاف أنه العليم بفلان والخبير بأقواله .. فياسبحان الله !! أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم قصده ومبتغاه ؟
أين أنت من قول القدوة الحبيب صلى الله عليه وسلم : ( إني لم أؤمر أن أنقب قلوب ولا أشق بطونهم)، والحديث أخرجه البخاري ومسلم.
ورحم الله ابن تيمية يوم أن قال في الفتاوى : (وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها , وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم , وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة:286)وفي الصحيح قال : "قد فعلت") والحديث عند مسلم في كتاب الإيمان.
فيا أخي الحبيب , أمسك عليك لسانك والزم الورع والتقى ومراقبة الله عز وجل وأشغل نفسك في طاعة الله أنفع لك عند الله , فعن البراء رضي الله عنه قال : جاء أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( دلني على عمل يدخلني الجنة – انظر للحرص – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطعم الجائع واسقِ الظمآن وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر فإن لم تطِق فكف لسانك إلا من خير) والحديث أخرجه أحمد وابن حبان وغيرهما وهو صحيح.
وعند مسلم قال تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك). سبحان الله ! انظر لفضل الله جل وعلا على عباده , إن كفك شرك عن الناس صدقة تكتب لك عند الله عز وجل.
فيا أيها الأخ الكريم إن أبواب الخير كثيرة وأعمال البر عديدة فأشغل نفسك فيها، فإن عجزت فكف لسانك إلا من خير , وإن أبيت إلا أن تكون راصداً لأقوال الناس حارساً لألسنتهم فقيه ببواطنهم , فحسبنا وحسبك الله.
صورة أخرى : سمع ذلك المتحدث أو بعضاً من كلماته دون أصغاءٍ جيد المهم أنه فهم فحوى الكلام وعرف قصد المتكلم أو هكذا زعم , وانتبهوا لهذه الصورة لأنها تحصل لكثير منا , قرأ ذلك الكتاب أو الخبر وهاهو يلتهم الأسطر ونظراته تتقافز بسرعة بين الكلمات التي تساقط الكثير منها من فرط السرعة المهم كما يزعم أنه فهم فكرة الكاتب وعرف قصده , ثم انتقل للمجالس ليؤدي ما تحمله ويزكي علمه , هكذا سولت له نفسه .. فذكر حديث فلان وخبر علان وأنه قال كذا وكذا , فشرّق وغرّب , وأبعد وأقرب , فقلّب الأقوال وبدّل الأحوال وما أُتي المسكين إلا من سوء فهمه والتسرع في نقله، سوء الفهم والتسرع في النقل أو القراءة، قوّل الآخرين ما لم يقولوه وقديماً قيل : وما آفة الأخبار إلا رواتها.
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ........ وآفته من الفهم السقيمِ
ولكن تأخذ الأذهان منه ............. على قدر القرائح والفهومِ
صورة أخرى : أننا نغفل أو نتغافل فنتكلم في المجالس ونذكر العشرات بأسمائهم , فإذا ذكّرنا مُذكّر أو حذرنا غيور بأن هذه غيبة , قلنا هذا حق وما قلنا فيه صحيح، وقد يسرد لك الأدلة والبراهين على ما يقول فيزيد الطين بلة .. فيا سبحان الله !! أليس النص واضح وصريح ؟ ألم يقل الصحابي للرسول صلى الله عليه وسلم :
( أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال عليه الصلاة والسلام : "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته , وإن لم يكن فيه فقد بهته ) أخرجه مسلم
إذاً فلا مفر , فإذا كان ما ذكرته صحيحاً فهذه هي الغيبة , وإذا كان ما ذكرته كذباً فهذا ظلم وبهتان , فكلا الأمرين ليس لك خيار فأمسك عليك لسانك !
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم , فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داوود في سننه وإسناده صحيح .
وعن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت امرأة – اسمع يا أيها المسلم , اسمع يا من في قلبك خوف من الله عز وجل- ذكرت امرأة فقالت إنها قصيرة – وفي رواية أنها أشارت إشارة أنها قصيرة – فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اغتبتيها" وفي رواية "اغتبتها" .. والحديث صحيح عند أبي داوود في سننه وأحمد في مسنده.
إذاً ما بال نسائنا اليوم يجلسن في المجالس فيعرضن لعشرات النساء , فلانة وعلانة , فتلك فيها والأخرى فيها وهكذا , ألا يخشين الله عز وجل ؟ ألا يخفن يوم أن تقف المرأة أمام الله عز وجل ويسألها عن قولها ؟ يا سبحان الله ! ألهذا الحد وصلت الغفلة في نساء المسلمين أن يغفلن أن مثل هذا القول سيجزين عليه أمام الله سبحانه وتعالى ؟ تذكري وقوفك بين يدي الله عز وجل , احرصي أيتها المسلمة , لنحرص على أنفسنا , إننا ابتلينا بقلة الأعمال الصالحة في مثل هذا الزمن، ابتلينا في هذا العصر بكثرة الذنوب والتقصير في حق أنفسنا وحق ربنا أيها الأحبة، فلماذا إذن نزيد الطين بلة ؟ ونجمع على ذلك ذنوب الآخرين في غيبتهم وتنقـّصهم وغير ذلك ؟
وليس معنى هذا السكوت عن الأخطاء، إنني لا أطالب أن نسكت عن أخطاء الآخرين , أو حتى نتغاضى عن العصاة والمجاهرين والفاسقين, وليس معنى ذلك ألا نحذر منهم ولا نفضحهم , لا بل هذه أمور كلها مطالب شرعية، مطالبون بها شرعاً، ولكن بالمنهج الشرعي وبالقواعد العلمية كما جاءت عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ولكني على يقين أن أكثر ما يقال في مجالسنا لمجرد التحدث والتفكه , وربما الهوى وأحقاد وأضغان عافانا الله وإياكم منها، ورحم الله عبداً قال خيراً فغنم , أو سكت عن سوءٍ فسلم.
صورة أخرى : قلت لبعض إخواني : الزم الأدب , وفارق الهوى والغضب أو أمسك عليك لسانك وابكِ على خطيئتك وانظر حالك وردد ما قلته لك على أمثالك، وقد كنت سمعت منه قيلاً وقال وجرح وثلب وهمز ولمز في أناس ما سمعنا عنهم إلا خيراً وهم من أهل الفضل , فما رأيناهم إلا يعملون الخير ويدعون له ويسعون للبر وينهون عن الإثم، فما استجاب لي وما سمع مني، فرأيت أن ألزم الصمت معهم وفيهم ولهم وعليهم، فأقبلت على واجباتي أيما إقبال وأرحت قلبي من الأحقاد والأغلال وذهني من الهواجس والأفكار , ثم جاء بعض الفضلاء وقال يقولون فيك كيت وكيت , يعلم الله ما التفت إليهم ولا تأذيت , وقلت لهم : رب كلام جوابه السكوت , ورب سكوت أبلغ من كلام، وعلمتني الحياة أن الصفح الجميل من أحسن الشيم.
قالوا سكت وقد خـُصِمت فقلت لهم .......... إن الجواب لباب الشر مفتاحُ
الصمت عن جاهل أو أحمق شرف .............. أيضاً وفيه لصون العرض إصلاحُ
أما ترى الأُسد تـُخشى وهي صامتة .......... والكلب يَخشى لعمري وهو نباحُ
ونقل الإمام الشاطبي عن أبي حامد الغزالي رحمة الله تعالى عليهما كلاماً متيناً يغفل عنه بعض الناس فقال : ( أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جهلة أهل الحق , أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال , ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء , فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة , ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها) انتهى كلامه رحمه الله تعالى من كتاب الاعتصام للشاطبي.
صورة أخرى من صور الواقع مع اللسان في مجالسنا اليوم: جلس مع صاحب له أو أصحاب فتكلموا وخاضوا , ولم يكن له من الأمر شيء إلا أنه شريك في المجلس , ومن باب المشاركة قالها كلمة أو كليمات لم يحسب لها حسابها ولم يتبين خطرها , ظنها حديث مجالس , كان يسمع ثم يهز رأسه علامة للرضا ثم قالها لم يظن نه يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، اسمع للنصوص الشرعية واستجب لها فإن فيها حياتك ونجاتك فقوله صلى الله عليه وسلم "ما يتبيّن" أي لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر فيها ولا في عواقبها ولا يظن أنها ستؤثر شيئاً , وهو من نحو قوله تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15) ،هكذا يلقي بعض الناس هذه الكلمات , فيا أخي الكريم انتبه للسانك إن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة فأمسك عليك لسانك.
صورة أخرى : كثير من الجلساء إذا ذكِر له صديقه أثنى عليه ولو كان يعلم أنه لا يستحق ذلك الثناء , وإذا ذكِر له خصمه ذمه ولو كان يعلم أنه خلاف ما يقول , فيا أيها المؤمن أسألك بالله هل تستطيع ذكر العيوب الموجودة في أقرب الناس إليك عند لحاجة الشرعية لذلك ؟ اسأل نفسك، وهل تستطيع أن تثني بصدق على إنسان تختلف معه في بعض الأمور ؟ أنا لا أريد الإجابة، ولكن الواقع يشهد أن أكثر الناس يجورون على خصومهم فيذمونهم بما ليس فيهم , ويجورون أيضاً على أصدقائهم فيمدحونهم بما ليس فيهم.
فإن من أثنى عليك بما ليس فيك فقد ذمك , نعم , لأن الناس يطلبون هذه الخصلة التي ذكرها فيك يطلبونها منك فلا يجدونها فيذمونك على فقدها , لا بل الأمر أدهى من ذلك وأشد فإن الحقيقة أنه كثيراً ما تنسينا العيوب القليلة المحاسن الكثيرة , انتبهوا لهذه الكلمة أيها الأحبة , وننسى القاعدة الشرعية : إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث , أفلا نتقي الله عند الجرح والتعديل وننزل الناس منازلهم؟
أليس قد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ووصفه بأنه ملك لا يظلم عنده أحد مع أنه – أي النجاشي – حينها كان كافراً لم يسلم بعد .. فيا أيها الأحبة , أسمعت رعاك الله ؟ أنصف الناس وأنصف نفسك، فإن غلب عليك الهوى فأمسك عليك لسانك لا أبا لك ..
صورة أخرى : تناظر اثنان في مجلس أي تجادلا وتناقشا , فارتفعت أصواتهما وانتفخت أوداجهما وتقاذفا بالسب والشتم , قلت : إن التشنج والانفعال ليس هو الأسلوب الأمثل لنصرة الحق أبداً، ولكن كم من هادئ عف اللسان حليم كاظم الغيظ أقدر على نصرة الحق من غيره، وقد قال أبو عثمان ابن الإمام الشافعي رحمة الله عليهما أجمعين : (ما سمعت أبي يناظر أحداً قط فرفع صوته).
وبعض الأخوة غفر الله للجميع يظن أن من تمام غيرته على المنهج وعظيم نصرته للحق لا بد أن يقطب جبينه ويحمر عينيه ويرفع صوته وتتسارع أنفاسه وهذا لا يصح أبداً، إن اختلاف الآراء ووجهات النظر لا يدعو للأحقاد والأضغان فإن المرجو البحث عن الحق وطلبه وليس التشفي والانتقام فينطلق اللسان بالسباب والشتائم ومقاطعة الكلام , فما من الناس أحد يكون لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله.
واسمع للأدب الجم والخلق الرفيع عند الحوار والمناقشة , قال عطاء بن أبي رباح : (إن الشاب ليتحدث بالحديث فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد ومع ذلك أسكت كأني لم أسمع الكلام إلا الساعة)، هكذا يكون الأدب عند الحوار وعند المناظرة.
وأخيراً : من أعظم الصور في مجالسنا ومن أخطرها على كثير من الناس إطلاق العنان للسان في التحليل والتحريم والسخرية والاستهزاء بالدين , هذه من أخطر الصور التي نرى أنها تفشت في مجالس المسلمين أياً كانوا , رجال أو نساء كبار أو صغار , وخاصة بين الشباب والعوام.
إنك لتسمع وترى تسرع فئات من الناس في إطلاق ألفاظ التحليل والتحريم وقد نهى الله تعالى عن ذلك ونهى عن المسارعة في إصدار التحريم والتحليل فقال وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116).
وكان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم مع سعة علمهم وفقههم لا يكثرون من إطلاق عبارات التحليل والتحريم وهذا من شدة ورعهم ومحاسبتهم لأنفسهم.
يقول الإمام مالك رحمة الله تعالى عليه : (لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون : نكره هذا , ونرى هذا حسناً , ونتقي هذا ولا نرى هذا , ولا يقولون حلال ولا حرام) انتهى كلامه من جامع بيان العلم وفضله.
أما نحن فنسمع عبارات التحليل والتحريم على كل لسان وخاصة من العامة , بدون علم ولا ورع ولا دليل مما أثار البلبلة عند الناس والتقوّل على الله بغير علم , بل المصيبة أن بعض الناس يسخر ببعض أحكام الدين ويهزأ بالصالحين والناصحين , وربما سخر باللحية أو سخر بالثوب القصير أو سخر ببعض سنن المرسلين والعياذ بالله , وهؤلاء والله إنهم على خطر عظيم , ألم يسمع هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم وإن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (الهمزة:1)، الهمزة هو الطعان في الناس , واللمز الذي يأكل لحوم الناس.
ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات:11).
ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل : ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18).
سبحان الله ! غابت عليهم هذه النصوص من القرآن والسنة , غفلوا عن خطر ما يتقولون بالليل والنهار في السخرية والاستهزاء بالدين , وربما خرج بعضهم والعياذ بالله من الدين بسبب كلمة يقولها وهو لا يشعر , فحق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شانه.
النتيجة النهائية لإطلاق العنان للسان .
أقول أيها الحبيب المسلم أنك أحوج ما تكون للعمل الصالح، أحوج ما نكون إلى الحسنات , وأراك تحرص على مجاهدة النفس لعلها أن تعينك على القيام بعمل صالح، من صلاة أو صيام أو صدقة وقد تنتصر عليها وقد لا تنتصر , وإن انتصرت عليها وقمت بالعمل فلا يسلم من شوائب كثيرة مثل الرياء والنقص وحديث النفس وغيرها من مفسدات الأعمال , ومع ذلك كله فإني أراك تبث هذه الحسنات في المجالس وتنثرها في المنتديات.
ماذا تراكم تقولون أيها الأخيار في رجل أخرج من جيبه عشرات الريالات ثم نثرها في المجلس و بددها ؟
ماذا نقول عنه ؟ أهو عاقل أم مجنون ؟
إن من جلس مجلساً ثم أطلق للسانه العنان فهذه علامة أكيدة على إفلاسه في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون ما المفلس ؟ " قالوا : المفلس منا من لا درهم له ولا متاع .. فقال :"إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة , ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا , فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته , فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) والعياذ بالله والحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتـُأدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم، حتى البهائم يفصل بينها يوم القيامة!!
فاحفظ حسناتك فأنت أحوج لها، واسمع لفقه الحسن البصري رحمه الله يوم أن جاء رجل فقال: ( إنك تغتابني , فقال : ما بلغ قدرك عندي أن أحكّمك في حسناتي).
وعن ابن المبارك رحمه الله قال : ( لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والديّ لأنهما أحق بحسناتي).
ففقها رضي الله عنهما أن آفات اللسان تأتي على الحسنات وقد لا تبقي منها شيئاً، فضياع الحسنات نتيجة أكيدة لإطلاق العنان للسان.
نتيجة ثانية لإطلاق العنان للسان:
فضحه وبيان عواره وهتك أستاره، ذلك الذي أطلق لسانه وأصبح يتكلم بلا ورع في المجالس والمنتديات وربما أصبح بذيء اللسان والجزاء من جنس العمل، وعن أبي بردة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه , لا تتبعوا عورات المسلمين ولا عثراتهم فإنه من يتبع عثرات المسلمين يتبع الله عثرته , ومن يتبع الله عثرته يفضحه وإن كان في بيته ) والحديث صحيح بمجموع طرقه.
والواقع يشهد بذلك فكم فضح الله حقيقة أولئك الذين آذوا إخوانهم بألسنتهم حتى عرفهم الناس وانكشف أمرهم.
وأيضاً من نتائج إطلاق العنان للسان أنه يعد من شرار الناس فيجتنبه الناس ويحذرونه اتقاء فحشه وإن ضحكوا له وجاملوه، هذه حقيقة نشاهدها في مجالسنا كثيراً , إن من أطلق للسانه العنان يعد من شرار الناس فلذلك تجد الناس يجتنبونه ويحرصون على الابتعاد عنه وإن ضحكوا له وجاملوه فاتقاءً لفحشه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة : ( إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء شرّه) البخاري ومسلم.
رابعاً : من النتائج أيضاً وهي الأخيرة :
البلاء موكل بالقول , فيُبلى المتكلم بما كان يذكره في أخيه , و احذر أيها الحبيب أن تظهر الشماتة بأخ أو أخت لك فيعافيه الله ويبتليك بما كان فيه فالبلاء موكل بالقول، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك ) أخرجه الترمذي0.
وقال إبراهيم التيمي: ( إني لأجد نفسي تحدثني بالشيء فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى ب).
وقال ابن مسعود : ( البلاء موكل بالقول , ولو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلباً).
هذه نتائج أربع من نتائج إطلاق العنان للسان.
وأخيراً أقول أيها المسلم هذه شذرات حول اللسان، وأظن أن الجميع بحاجة ماسة للتذكير فيها , فالعاقل يحرص والغافل يتنبه والمبليّ يحذر , يا أيها السامع كن المستفيد الأول.
ثم اعلم أنك تجالس كثيراً من الناس من أحبابك وخلانك وأصدقائك , ولا تخلو مجالس من غثاء قلّ أو كثر , فمن حقهم عليك أن يسمعوا مثل هذا الكلام وأن يذكّروا بهذه الآيات والأحاديث , فإن القلب يغفل والنفس تسلو فاسمع وسمّع واستفد وأفِد , والدال على الخير كفاعله.
أسأل الله عز وجل أن يكون خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به الجميع وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
اللهم طهّر قلوبنا من النفاق وعيوننا من الخيانة وألسنتنا من الكذب والغيبة النميمة والمراء والجدال وجنبنا الوقوع في الأعراض.
اللهم اجعل ألسنتنا حرباً على أعدائك سلماً لأوليائك.
اللهم إنا نسألك سكينة في النفس وانشراحاً في الصدر.
اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين ومن جندك المخلصين وانصر بنا الدين واجعل لنا لسان صدق في الآخرين.
اللهم انفعنا وانفع بنا.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
( تم تفريغ الشريط من قبل إحدى الأخوات جزاها الله الفردوس وجعل ذلك في موازين حسناتها).
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب، بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
- الاستئذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك إلى قيام الساعة.
في اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الـجـليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
| | |
13 - 9 - 2014, 02:20 PM
|
#77 |    
رد: مدونة المحاضرات والخطب الاسلامية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .... أما بعد ..أحبتي في الله ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... هذه محاضرة بعنوان " غثاء الألسنة ".
والغثاء بالمد والضم : ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره , وغثاء الألسنة من أراذل الناس وسقطهم , والغث هو الرديء من كل شيء، وغث حديث القوم أي فسد وردئ , وأغث فلان في الحديث أي جاء بكلام غث لا معنى له.
وما أكثر الكلام الفاسد الذي يدور في مجالس المسلمين أياً كانوا , كباراً أم صغاراً , رجالاً أو نساءً , إن غثاء الألسنة اليوم يزكم الأنوف ويصم الأذان ويصيبك بالدوار والغثيان , وأنت تسمع حديث المجالس اليوم لا نقول ذلك في مجالس العامة ودهماء الناس فقط , بل وللأسف وأقولها بكل أسى حتى في مجالس الصالحين ومجالس المعلمين والمتعلمين.
غثاء الألسنة في الكذب والغش والخداع والنفاق.
غثاء الألسنة في الغيبة والنميمة والقيل والقال.
غثاء الألسنة في أعراض الصالحين والمصلحين والدعاة والعلماء في الوقت الذي سلم فيه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والرافضين والمنافقين.
غثاء الألسنة في التدليس والتلبيس وتزييف الحقائق وتقليب الأمور.
غثاء الألسنة في التجريح والهمز واللمز وسوء الظن.
غثاء الألسنة في الدخول في المقاصد والنيات وفقه الباطن.
غثاء الألسنة في كل ما تحمله هذه الكلمة من غثائيةٍ وغث وغثيثٍ وغثيان , وما هي النتيجة ؟
النتيجة هي بث الوهن والفرقة والخصام والتنازع بين المسلمين وقطع الطريق على العاملين , وإخماد العزائم بالقيل والقال , إنك ما إن ترى الرجل حسن المظهر و سيماه الخير وقد تمسك بالسنة في ظاهره إلا وتقع الهيبة في قلبك والاحترام والتقدير في نفسك , وما أن يتكلم فيجرح فلان ويعرّض بعلان و ينتقص عمراً ويصنف زيداً , إلا وتنـزع مهابته من قلبك ويسقط من عينيك وإن كان حقاً ما يقول , وإن كان صادقاً فيه فلا حاجة شرعية دعت لذلك , وإن دعت الحاجة فبالضوابط الشرعية والقواعد الحديثية.
فإن لم تعلمها أخي المسلم فلا أستطيع أن أقول إلا "أمسك عليك لسانك" , إن المصنفات في الجرح والتعديل مئات المجلدات , لكن اقرأ فيها وتمعن فيها , وكيف كان الجرح فيها ؟ فشتان بين الجرحين .
لقد كان خوف الله عز وجل ميزاناً دقيقاً لألسنتهم رحمهم الله تعالى,وكان هدفهم هو تمييز صحيح السنة من سقيمها, ولكن ما هو الهدف اليوم ؟
نعوذ بالله من الهوى ومن الحسد ومن الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق.
أيها الأخ المسلم .. إلى متى ونحن نجهل أو نتجاهل أو نغفل أو نتغافل عن خطورة هذا اللسان ؟ مهما كان صلاحك ومهما كانت عبادتك ومهما كان خيرك ومهما كان علمك ومهما كانت نيتك ومهما كان قصدك.
فرحم الله ابن القيم رحمة واسعة يوم أن قال في "الجواب الكافي " :
(من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والسرقة وشرب الخمر والنظر المحرم وغير ذلك , ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه !! حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً , يزل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق والمغرب والعياذ بالله).
وقال أيضاً في الكتاب نفسه :
( إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها , ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله تعالى وما اتصل به ).
وما أجمل ذلك الكلام !! ولذلك أقول أيها الأخ الحبيب احذر لسانك وانتبه للسانك واحبس لسانك وأمسك عليك لسانك وهو جزء من حديث نبوي أخرجه الترمذي في سننه وأحمد في مسنده وابن المبارك والطبراني وغيره من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال :
( قلت : يا رسول الله ما النجاة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " املك عليك لسانك وليسعك بيتك وابكِ على خطيئتك " وفي لفظ : " أمسك عليك لسانك ) والحديث صحيح بشواهده.
وأنا هنا لا أدعوك للعزلة وإنما أقول أمسك عليك لسانك إلا من خير , كما في الحديث الآخر:
( فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير) والحديث رواه أحمد وابن حبان وغيرهما .
وحفظ اللسان على الناس أشد من حفظ الدراهم والدنانير كما يقول محمد بن واسع رحمه الله تعالى , ولأن كثرة الكلام تذهب بالوقار ومن كثر كلامه كثر سقطه ولأننا نرى الناس قد أطلقوا العنان لألسنتهم فأصبح ذلك اللسان سلاحاً لبث الفرقة والنـزاع والخصام وفي مجالات الحياة كلها وبين النساء والرجال على السواء ولكثرة الجلسات والدوريات والاستراحات , ولأن الكلام فاكهة هذه الجلسات , كان لا بد من وضع ضابط ولا بد من تحذيرٍ وتذكيرٍ للناس في مثل هذه الجلسات ولأنك ستسمع الكثير إن شاء الله من الأسباب التي جعلتني أختار مثل هذا الموضوع من خلال هذه العناصر :
- خطر اللسان.
- أدلة من السنة والكتاب.
- السلف الصالح مع اللسان.
- صور من الواقع.
- النتيجة النهائية.
واسمع قبل ذلك كلاماً جميلاً جداً للإمام النووي رحمه الله في كتاب الأذكار يوم أن قال فصل:
( اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلام تظهر المصلحة فيه ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة ). انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
اسمع للفقه، اسمع لفقههم رحمهم الله تعالى " ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة " يعني كان قول الكلام أو تركه بمصلحةٍ واحدة، فالسنة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه , بل هذا كثير وغالباً في العادة والسلامة لا يعدلها شيء.
خطر اللسان :- أدلة من الكتاب والسنة :
هل قرأت القرآن ومرّ بك قوله عز وجل : ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18)
هل تفكرت في هذه الآية ؟ إنها الضابط الشرعي ( لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (قّ:37).
أسمعت أيها الإنسان ؟ أسمعت أيها المسكين ؟ إنها رقابة شديدة دقيقة رهيبة تطبق عليك إطباقاً شاملاً كاملاً , لا تـُغفل من أمرك دقيقاً ولا جليلاً , ولا تفارقك كثيراً ولا قليلاً , كل نفَس معدود , وكل هاجسة معلومة وكل لفظ مكتوب وكل حركة محسوبة في كل وقت وكل حال وفي أي مكان , عندها قل ما شئت وحدث بما شئت وتكلم بمن شئت ولكن اعلم أن هناك من يراقبك , اعلم أن هناك من يسجل وأنه يعد عليك الألفاظ :
( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:17- 18).
إنها تعنيك أيها الإنسان إنها تعنيك أنت أيها المسلم , ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) هذه الآيات والله إنها لتهز النفس هزاً وترجها رجاً وتثير فيها رعشة الخوف,الخوف من الله عز وجل , قال ابن عباس :
( يكتب كل ما تكلم به من خير وشر حتى أنه ليكتب قولك : أكلتُ , شربتُ , ذهبت, جئت, رأيت .. حتى إذا كان يوم الخميس عُرض قوله وعمله فأقِر منه ما كان من خير وشر وألقي سائره ).
واسمع للآيات من كتاب الله عز وجل تقرع سمعك وتهز قلبك إن كان قلباً مؤمناً يخاف الله عز وجل:
( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار: 12)
( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58).
( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36).
( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور:24).
وأخيرا قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر:14). فربك راصد ومسجل لكلماتك ولا يضيع عند الله شيء.
أما أنت أيها المؤمن , أما أنت يا من يقال عنك ويدور عنك الحديث في المجالس , أما أنت أيها المظلوم فإن لك بهذه الآية تطميناً فلا تخف ولا تجزع فإن ربك بالمرصاد لمن أطلقوا العنان لألسنتهم في أعراض العباد , بالمرصاد للطغيان والفساد والشر , فلا تجزع بعد ذلك أيها الأخ الحبيب.
ولتـزداد بيّنة في خطر هذا اللسان الذي بين لحييك فاسمع لهذه الأحاديث باختصار:
فعن بلال بن حارث المزني رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه , وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة )." والعياذ بالله .. والحديث أخرجه البخاري.
وكان علقمة يقول كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث)، أي هذا الحديث، اسمع لحرصهم رضي الله عنهم وأرضاهم، كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره فأين أنت يا علقمة من الذين يلقون الكلمات على عواهلها فلا يحسبون لها حساباً , كم نلقي أيها الأحبة , كم نلقي أيها المسلم من كلمات نظن أنها ذهبت أدراج الرياح وهي عند ربك في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى فاحسب لهذا الأمر حسابه حتى تعلم أن كل كلمة مسجلة عليك أيها الأخ الحبيب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق) والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وفي رواية مسلم ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
أسألك العفو يا إلهي .. إن شغلنا الشاغل في مجالسنا اليوم أيها الأحبة هو بث الكلمات ونشر الشائعات وكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم , ولا شك أن فساد المجالس بسبب قلة العلم والاطلاع , إذ لو وُجد أو أوجد هذا العلم لاستغلت المجالس أحسن استغلال ولسمعت النكت العلمية والفوائد الشرعية والمسائل الفقهية بدلاً عن القيل والقال والغرائب والعجائب ولكن فاقد الشيء لا يعطيه.
وهذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى اليوم بين كثير من الناس , إسهال فكري وإسهال كلامي أصاب مجالس المسلمين اليوم إنك تجلس الكثير من المجالس وربما لم يمر عليك يوم من الأيام وليلة من الليالي إلا وجلست مجلساً فبماذا خرجت من هذه المجالس؟
ما هي النتيجة ؟
ما هي الثمرة من هذه المجالس التي جلستها ؟
أيها الأخ الحبيب , لا شك أن هذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى في صفوف المسلمين اليوم وقلة البركة حيث أصبح العلم مصدر رزق الكثير من الناس ولذلك تجد في المجلس الواحد عشرات المدرسين والمتعلمين ومع ذلك يذهب المجلس هباءً بدون فائدة , بل ربما ذهب والعياذ بالله بالآثام وجمع السيئات.
وفي حديث معاذ الطويل قال رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟" قال معاذ : بلى يا رسول الله , فأخذ بلسانه ثم قال).
انظر الوصية .. أخذ بلسانه ثم قال :
( "كف عليك هذا" قلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟)
بعض الناس قد يجهل أنه سيؤاخذ بكل كلمة تكلم بها سواءً خير أو شر.
(وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟" قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ثكلتك أمك يا معاذ , وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟" والحديث أخرجه الترمذي في سننه وقال حسن صحيح.
وفي حديث سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه.
وفي آخر حديث سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال في آخره قلت يا رسول الله , ما أخوف ما تخاف عليّ ؟ فأخذ بلسان نفسه وقال :"هذا" ) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده والترمذي في سننه وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
ثم يوجه المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته تلك القاعدة الشرعية والمعيار الدقيق ولمن اختلطت عليه الأوراق وليقطع الشك باليقين وليسلم من الحيرة والتردد فيقول كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
قاعدة شرعية تربوية منهجية نبوية ميزان معيار دقيق لك أيها المسلم ولكِ أيتها المسلمة يوم تجلس مجلساً "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" انظر للتربية ربط هذه القلوب باليوم الآخر "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" .. ولأن النفوس اليوم غفلت عن اليوم الآخر وتعلقت بالدنيا وشهواتها ولذاتها غفلت عن هذه القاعدة الشرعية النبوية ونسيت الحساب والعذاب ونسيت الجنة والنار وغفلت عنها .. وبالتالي انطلق اللسان يفري في لحوم العباد فرياً بدون ضوابط وبدون خوفٍ ولا وجل .. لماذا هذه القاعدة ؟
لأنه لا يصح أبداً أن يؤذي المسلم إخوانه بلسانه ولأن المسلم الصادق المحب الناصح هو من سلم المسلمون من لسانه ويده (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) كما في حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه.
والأحاديث في الباب كثيرة مستفيضة.
وكم نحن بحاجة لمن يردد هذه الأحاديث على مسامع الناس , كم نحن بحاجة أيها الأخيار , يا طلبة العلم , أيها الصالحون , كم نحن بحاجة أيتها الصالحات , يا أيتها القانتات الخائفات العابدات الساجدات , كم نحن بحاجة إلى من يردد على المسلمين والمسلمات أمثال هذه الأحاديث ليتذكروها ويعوها وليفهموها جيداً , حتى تتذكر النفس كلما أراد اللسان أن ينطلق بكلمة يحسب لها حسابها قبل أن يخرج لسانه بهذه الكلمات.
واسمع لرواة هذه الأحاديث من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يوم أن سمعوها علماً وعملاً وامتثالاً للمصادر الشرعية "الكتاب والسنة" .. وإليك الأدلة من حياتهم العملية رضوان الله عليهم.
السلف الصالح مع اللسان :
أسوق إليك أيها الأخ الحبيب مواقف قليلة جداً عن حال السلف مع ألسنتهم:
ذكر الإمام مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه دخل على أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وهو يجبذ لسانه أي يجره بشدة، فقال عمر: ( مَـه !! غفر الله لك " فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه : "إن هذا أوردني الموارد"). من القائل ؟ الرجل الأول بعد الأنبياء والرسل رضي الله عنه وأرضاه , القائل أبو بكر , انظر إلى حرصه على لسانه رضي الله عنه وأرضاه ..
قال رجل : رأيت ابن عباس آخذاً بثمرة لسانه وهو يقول: ( ويحك , قل خيراً تغنم واسكت عن شرٍ تسلم. قال : فقال له الرجل : يا ابن عباس , مالي أراك آخذاً بثمرة لسانك وتقول كذا وكذا ؟ .. قال ابن عباس : بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيءٍ أحنق منه على لسانه، يعني لا يغضب على شيءٍ من جوارحه أشد من غضبه على لسانه)، والأثر أخرجه ابن المبارك وأحمد وأبو نعيم وأيضاً أخرجه أحمد في كتاب الزهد , والمتن بجميع طرقه حسن والله أعلم.
وقال عبد الله بن أبي زكريا: ( عالجت الصمت عشرين سنة – انظر للحساب .. انظر محاسبة النفس – عالجت الصمت عشرين سنة فلم أقدر منه على ما أريد )، وكان لا يدع يعاتب في مجلسه أحد , ويقول : ( إن ذكرتم الله أعنـّاكم , وإن ذكرتم الناس تركناكم )، انظر للضابط " إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم.
وكان طاووس بن كيسان رضي الله عنه يعتذر من طول السكوت ويقول: ( إني جربت لساني فوجدته لئيماً راضعاً). هؤلاء هم رضي الله عنهم .. فماذا نقول نحن عن ألسنتنا ؟!
وذكر هناد ابن السري في كتابه الزهد بسنده إلى الحسن أنه قال : ( يخشون أن يكون قولنا "حميد الطويل" غيبة لأنهم بينوه ونسبوه أنه طويل ). حميد الطويل يخشون أن تكون غيبة, رحمة الله عليهم أجمعين.
وأخرج وكيع في الزهد وأبو نعيم في الحلية من طريق جرير بن حازم قال : ( ذكر ابن سيرين رجلاً فقال : ذلك الرجل الأسود .. يريد أن يعرّفه .. ثم قال : أستغفر الله , إني أراني قد اغتبته).
وكان عبد الله بن وهب رحمه الله يقول : ( نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً فأجهدني – يعني تعبت – فكنت أغتاب وأصوم أغتاب وأصوم .. فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة)، جرب هذا , كلما اغتبت أحداً أو ذكرته بسوءٍ فادفع ولو ريالاً واحداً .. الله أعلم بحالنا .. في آخر الشهر لن يبقى من الراتب ولو ريال واحد .. لأنا أعرف بأنفسنا في المجالس أيها الأحبة، والله المستعان !
قال النووي في الأذكار : بلغنا أن قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا , فقال أحدهما لصاحبه : (كم وجدت في ابن آدم من العيوب ؟ فقال : هي أكثر من أن تحصى , والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب, فوجدت خصلة إن استعملتها سترت العيوب كلها .. قال : ما هي ؟ قال : حفظ اللسان !!)
قال إبراهيم التيمي : (أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمع منه كلمة تعاب).
وقيل للربيع : ( ألا تذم الناس ؟ قال : والله إني ما أنا عن نفسي براضٍ فأذم الناس ؟ إن الناس خافوا الله على ذنوب الناس , وأمنوه على ذنوبهم)، وصدق رحمه الله , صدق.
ألا ترون أيها الأحبة في مجالسنا نقول : نخشى عذاب الله من فعل فلان , ونخاف من عقاب الله من قول علان , ولا نخشى الله من قولنا وفعلنا .. وهذا ظاهر في مجالسنا نقول : نخشى من عذاب الله من عمل فلان وعلان , ولكننا ننسى أن نخاف على أنفسنا من عذاب الله من ذنوبنا وأفعالنا وأقوالنا.
ارجع لنفسك وانظر لعيوبها قبل أن تنظر لعيوب الآخرين وتتكلم فيهم.
وقال حماد بن زيد : ( بلغني أن محمد بن واسع كان في مجلس فتكلم رجل فأكثر الكلام , فقال له محمد : ما على أحدهم لو سكت فتنقى وتوقى). أي اختار كلماته وحسب لها حسابها.
وقال بكر بن المنير سمعت أبا عبد الله البخاري يقول ( أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً )، اسمع للثقة، والبخاري له كتب في الجرح والتعديل، ويقول الذهبي في السير معلقاً على قول البخاري هذا صدق رحمه الله .. ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه في من يضعفه فإن أكثر ما يقول – يعني أشد ما يقول البخاري إذا أراد أن يجرح رجلاً – يقول : منكر الحديث , سكتوا عنه , فيه نظر , ونحو هذا، وقلّ أن يقول فلان كذاب , أو كان يضع الحديث ,حتى أنه قال : إذا قلت "فلان في حديثه نظر" فهو متهم واهن , وهذا معنى قوله " لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً " وهذا هو والله غاية الورع ) انتهى كلام الذهبي.
هذا موقف السلف الصالح رضوان الله عليهم مع اللسان , والآن تعال إلى صورٍ من الواقع وهي عبارة عن مواقف مبعثرة وأحداثٍ متعددة تتكرر في مجالسنا كثيراً , اخترت منها عشرة مشاهد , أسوقها إليك فأصغ لي سمعك وفهمك وأحسن الظن فيّ فلعلي لا أحسن التصوير أو ربما خانني التعبير , ما أريد يعلم الله إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.
ومن الصور المشاهدة في مجالسنا:
وأولى هذه الصور :
حديث العامة أن فلاناً فيه أخطاء، وفلان آخر فيه تقصير، والثالث فيه غفلة، والرابع لا يسلم من العيب الفلاني .. وهكذا .. أقاموا أنفسهم لتقييم الآخرين وجرحهم ولمزهم .. فيا سبحان الله !!
نسينا أنفسنا , نسينا عيوبنا وتقصيرنا وغفلتنا وكثرة أخطائنا , ولو أعمل عاقل فكره في الجالسين أنفسهم لوجدنا فيهم البذاءة وسوءاً في المعاملة والأخلاق , فهو إن حدث كذب وإن وعد أخلف , أو باع واشترى فغش وخداع، وإن جاء للصلاة نقرها نقر غراب مقصر في الفرائض مهمل في النوافل , في وظيفته تأخر وهروب وإهمال واحتيال، وفي بيته وسائل الفساد وضياع الأولاد وعقوق للأرحام , كل هذه النقائص والمصائب عميت عليه فنسيها في نفسه وذكرها في إخوانه فلم يسلم منه حتى ولا الصالحون المخلصون.
فيا أيها الأخ , والله إني عليك لمشفق ولك محب فأمسك عليك لسانك وكف عن أعراض الناس وإذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك، كما قال ابن عباس، وقال أبو هريرة: ( يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجل في عينه ).
وقال عون بن عبد الله : ( ما أحسب أحداً تفرغ لعيوب الناس إلا من غفلةٍ غفلها عن نفسه).
وقال بكر بن عبد الله المزني إذا رأيتم الرجل مولعاً بعيوب الناس ناسياً لعيوبه – أو لعيبه – فاعلموا أنه قد مـُكـِر به ).
إذا رمت أن تحيا سليماً من الردى ........ ودينك موفور وعرضك صيّن
فلا ينطقن منك اللسان بسوءةٍ ........... فكلك سوءاتٍ وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معائباً ............ فدعها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ...... ودافع ولكن بالتي هي أحسن
صورة ثانية من الصور التي تقع في واقعنا :
جلسوا مجلسهم فبدأ الحديث فذكروا زيداً وأن فيه وفيه ثم ذكروا قول عمرو فأتقنوا فن الهمز واللمز , والعجيب أن معهم فلاناً العابد الزاهد القائم الصائم والأعجب أن من بينهم طالب العلم فلاناً الناصح الأمين , والحمد لله لم يتكلما وسكتا , ولكنهما ما سلما لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس , ولأن المستمع شريك للقائل ما لم يتبع المنهج الشرعي: ( من ردّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار )، هذا هو المنهج الشرعي والحديث أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث أبي الدرداء والحديث حسن.
فيا أيها المسلم إذا وقع في أحدٍ وأنت في ملأ فكن له ناصراً وللقوم زاجراً وانصر أخاك ظالماً أو مظلوماً وقل للمتحدث "أمسك عليك لسانك" فإن استجابوا وإلا فقم عنهم : ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات:12).
واسمع لكلام ابن الجوزي الجميل في تلبيس إبليس قال رحمه الله تعالى : ( وكم من ساكت عن غيبة المسلمين , إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه وهو آثم من ذلك بثلاثة وجوه :- أحدها : الفرح فإنه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب , والثاني : لسروره بثلب المسلمين , والثالث : أنه لا ينكره) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى : ( ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى - انتبه إلى هذا الكلام الجميل النفيس – تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول : لي ليس عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله , ويقول : والله إنه مسكين أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت وربما يقول : دعونا منه الله يغفر لنا وله .. وإنما قصده استنقاصه وهضم لجنابه .. ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقاً وقد رأينا منهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه) انتهى كلامه رحمه الله.
صورة ثالثة : اتهام النيات والدخول في المقاصد من أخطر آفات اللسان , يتبعه تبديع الخلق وتصنيف الناس وتقسيمهم إلى أحزاب وهم منها براء وقد يتبع ذلك أيمان مغلظة وأقسام وأحلاف أنه العليم بفلان والخبير بأقواله .. فياسبحان الله !! أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم قصده ومبتغاه ؟
أين أنت من قول القدوة الحبيب صلى الله عليه وسلم : ( إني لم أؤمر أن أنقب قلوب ولا أشق بطونهم)، والحديث أخرجه البخاري ومسلم.
ورحم الله ابن تيمية يوم أن قال في الفتاوى : (وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها , وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم , وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة:286)وفي الصحيح قال : "قد فعلت") والحديث عند مسلم في كتاب الإيمان.
فيا أخي الحبيب , أمسك عليك لسانك والزم الورع والتقى ومراقبة الله عز وجل وأشغل نفسك في طاعة الله أنفع لك عند الله , فعن البراء رضي الله عنه قال : جاء أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( دلني على عمل يدخلني الجنة – انظر للحرص – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطعم الجائع واسقِ الظمآن وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر فإن لم تطِق فكف لسانك إلا من خير) والحديث أخرجه أحمد وابن حبان وغيرهما وهو صحيح.
وعند مسلم قال تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك). سبحان الله ! انظر لفضل الله جل وعلا على عباده , إن كفك شرك عن الناس صدقة تكتب لك عند الله عز وجل.
فيا أيها الأخ الكريم إن أبواب الخير كثيرة وأعمال البر عديدة فأشغل نفسك فيها، فإن عجزت فكف لسانك إلا من خير , وإن أبيت إلا أن تكون راصداً لأقوال الناس حارساً لألسنتهم فقيه ببواطنهم , فحسبنا وحسبك الله.
صورة أخرى : سمع ذلك المتحدث أو بعضاً من كلماته دون أصغاءٍ جيد المهم أنه فهم فحوى الكلام وعرف قصد المتكلم أو هكذا زعم , وانتبهوا لهذه الصورة لأنها تحصل لكثير منا , قرأ ذلك الكتاب أو الخبر وهاهو يلتهم الأسطر ونظراته تتقافز بسرعة بين الكلمات التي تساقط الكثير منها من فرط السرعة المهم كما يزعم أنه فهم فكرة الكاتب وعرف قصده , ثم انتقل للمجالس ليؤدي ما تحمله ويزكي علمه , هكذا سولت له نفسه .. فذكر حديث فلان وخبر علان وأنه قال كذا وكذا , فشرّق وغرّب , وأبعد وأقرب , فقلّب الأقوال وبدّل الأحوال وما أُتي المسكين إلا من سوء فهمه والتسرع في نقله، سوء الفهم والتسرع في النقل أو القراءة، قوّل الآخرين ما لم يقولوه وقديماً قيل : وما آفة الأخبار إلا رواتها.
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ........ وآفته من الفهم السقيمِ
ولكن تأخذ الأذهان منه ............. على قدر القرائح والفهومِ
صورة أخرى : أننا نغفل أو نتغافل فنتكلم في المجالس ونذكر العشرات بأسمائهم , فإذا ذكّرنا مُذكّر أو حذرنا غيور بأن هذه غيبة , قلنا هذا حق وما قلنا فيه صحيح، وقد يسرد لك الأدلة والبراهين على ما يقول فيزيد الطين بلة .. فيا سبحان الله !! أليس النص واضح وصريح ؟ ألم يقل الصحابي للرسول صلى الله عليه وسلم :
( أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال عليه الصلاة والسلام : "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته , وإن لم يكن فيه فقد بهته ) أخرجه مسلم
إذاً فلا مفر , فإذا كان ما ذكرته صحيحاً فهذه هي الغيبة , وإذا كان ما ذكرته كذباً فهذا ظلم وبهتان , فكلا الأمرين ليس لك خيار فأمسك عليك لسانك !
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم , فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داوود في سننه وإسناده صحيح .
وعن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت امرأة – اسمع يا أيها المسلم , اسمع يا من في قلبك خوف من الله عز وجل- ذكرت امرأة فقالت إنها قصيرة – وفي رواية أنها أشارت إشارة أنها قصيرة – فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اغتبتيها" وفي رواية "اغتبتها" .. والحديث صحيح عند أبي داوود في سننه وأحمد في مسنده.
إذاً ما بال نسائنا اليوم يجلسن في المجالس فيعرضن لعشرات النساء , فلانة وعلانة , فتلك فيها والأخرى فيها وهكذا , ألا يخشين الله عز وجل ؟ ألا يخفن يوم أن تقف المرأة أمام الله عز وجل ويسألها عن قولها ؟ يا سبحان الله ! ألهذا الحد وصلت الغفلة في نساء المسلمين أن يغفلن أن مثل هذا القول سيجزين عليه أمام الله سبحانه وتعالى ؟ تذكري وقوفك بين يدي الله عز وجل , احرصي أيتها المسلمة , لنحرص على أنفسنا , إننا ابتلينا بقلة الأعمال الصالحة في مثل هذا الزمن، ابتلينا في هذا العصر بكثرة الذنوب والتقصير في حق أنفسنا وحق ربنا أيها الأحبة، فلماذا إذن نزيد الطين بلة ؟ ونجمع على ذلك ذنوب الآخرين في غيبتهم وتنقـّصهم وغير ذلك ؟
وليس معنى هذا السكوت عن الأخطاء، إنني لا أطالب أن نسكت عن أخطاء الآخرين , أو حتى نتغاضى عن العصاة والمجاهرين والفاسقين, وليس معنى ذلك ألا نحذر منهم ولا نفضحهم , لا بل هذه أمور كلها مطالب شرعية، مطالبون بها شرعاً، ولكن بالمنهج الشرعي وبالقواعد العلمية كما جاءت عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ولكني على يقين أن أكثر ما يقال في مجالسنا لمجرد التحدث والتفكه , وربما الهوى وأحقاد وأضغان عافانا الله وإياكم منها، ورحم الله عبداً قال خيراً فغنم , أو سكت عن سوءٍ فسلم.
صورة أخرى : قلت لبعض إخواني : الزم الأدب , وفارق الهوى والغضب أو أمسك عليك لسانك وابكِ على خطيئتك وانظر حالك وردد ما قلته لك على أمثالك، وقد كنت سمعت منه قيلاً وقال وجرح وثلب وهمز ولمز في أناس ما سمعنا عنهم إلا خيراً وهم من أهل الفضل , فما رأيناهم إلا يعملون الخير ويدعون له ويسعون للبر وينهون عن الإثم، فما استجاب لي وما سمع مني، فرأيت أن ألزم الصمت معهم وفيهم ولهم وعليهم، فأقبلت على واجباتي أيما إقبال وأرحت قلبي من الأحقاد والأغلال وذهني من الهواجس والأفكار , ثم جاء بعض الفضلاء وقال يقولون فيك كيت وكيت , يعلم الله ما التفت إليهم ولا تأذيت , وقلت لهم : رب كلام جوابه السكوت , ورب سكوت أبلغ من كلام، وعلمتني الحياة أن الصفح الجميل من أحسن الشيم.
قالوا سكت وقد خـُصِمت فقلت لهم .......... إن الجواب لباب الشر مفتاحُ
الصمت عن جاهل أو أحمق شرف .............. أيضاً وفيه لصون العرض إصلاحُ
أما ترى الأُسد تـُخشى وهي صامتة .......... والكلب يَخشى لعمري وهو نباحُ
ونقل الإمام الشاطبي عن أبي حامد الغزالي رحمة الله تعالى عليهما كلاماً متيناً يغفل عنه بعض الناس فقال : ( أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جهلة أهل الحق , أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال , ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء , فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة , ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها) انتهى كلامه رحمه الله تعالى من كتاب الاعتصام للشاطبي.
صورة أخرى من صور الواقع مع اللسان في مجالسنا اليوم: جلس مع صاحب له أو أصحاب فتكلموا وخاضوا , ولم يكن له من الأمر شيء إلا أنه شريك في المجلس , ومن باب المشاركة قالها كلمة أو كليمات لم يحسب لها حسابها ولم يتبين خطرها , ظنها حديث مجالس , كان يسمع ثم يهز رأسه علامة للرضا ثم قالها لم يظن نه يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، اسمع للنصوص الشرعية واستجب لها فإن فيها حياتك ونجاتك فقوله صلى الله عليه وسلم "ما يتبيّن" أي لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر فيها ولا في عواقبها ولا يظن أنها ستؤثر شيئاً , وهو من نحو قوله تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15) ،هكذا يلقي بعض الناس هذه الكلمات , فيا أخي الكريم انتبه للسانك إن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة فأمسك عليك لسانك.
صورة أخرى : كثير من الجلساء إذا ذكِر له صديقه أثنى عليه ولو كان يعلم أنه لا يستحق ذلك الثناء , وإذا ذكِر له خصمه ذمه ولو كان يعلم أنه خلاف ما يقول , فيا أيها المؤمن أسألك بالله هل تستطيع ذكر العيوب الموجودة في أقرب الناس إليك عند لحاجة الشرعية لذلك ؟ اسأل نفسك، وهل تستطيع أن تثني بصدق على إنسان تختلف معه في بعض الأمور ؟ أنا لا أريد الإجابة، ولكن الواقع يشهد أن أكثر الناس يجورون على خصومهم فيذمونهم بما ليس فيهم , ويجورون أيضاً على أصدقائهم فيمدحونهم بما ليس فيهم.
فإن من أثنى عليك بما ليس فيك فقد ذمك , نعم , لأن الناس يطلبون هذه الخصلة التي ذكرها فيك يطلبونها منك فلا يجدونها فيذمونك على فقدها , لا بل الأمر أدهى من ذلك وأشد فإن الحقيقة أنه كثيراً ما تنسينا العيوب القليلة المحاسن الكثيرة , انتبهوا لهذه الكلمة أيها الأحبة , وننسى القاعدة الشرعية : إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث , أفلا نتقي الله عند الجرح والتعديل وننزل الناس منازلهم؟
أليس قد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ووصفه بأنه ملك لا يظلم عنده أحد مع أنه – أي النجاشي – حينها كان كافراً لم يسلم بعد .. فيا أيها الأحبة , أسمعت رعاك الله ؟ أنصف الناس وأنصف نفسك، فإن غلب عليك الهوى فأمسك عليك لسانك لا أبا لك ..
صورة أخرى : تناظر اثنان في مجلس أي تجادلا وتناقشا , فارتفعت أصواتهما وانتفخت أوداجهما وتقاذفا بالسب والشتم , قلت : إن التشنج والانفعال ليس هو الأسلوب الأمثل لنصرة الحق أبداً، ولكن كم من هادئ عف اللسان حليم كاظم الغيظ أقدر على نصرة الحق من غيره، وقد قال أبو عثمان ابن الإمام الشافعي رحمة الله عليهما أجمعين : (ما سمعت أبي يناظر أحداً قط فرفع صوته).
وبعض الأخوة غفر الله للجميع يظن أن من تمام غيرته على المنهج وعظيم نصرته للحق لا بد أن يقطب جبينه ويحمر عينيه ويرفع صوته وتتسارع أنفاسه وهذا لا يصح أبداً، إن اختلاف الآراء ووجهات النظر لا يدعو للأحقاد والأضغان فإن المرجو البحث عن الحق وطلبه وليس التشفي والانتقام فينطلق اللسان بالسباب والشتائم ومقاطعة الكلام , فما من الناس أحد يكون لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله.
واسمع للأدب الجم والخلق الرفيع عند الحوار والمناقشة , قال عطاء بن أبي رباح : (إن الشاب ليتحدث بالحديث فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد ومع ذلك أسكت كأني لم أسمع الكلام إلا الساعة)، هكذا يكون الأدب عند الحوار وعند المناظرة.
وأخيراً : من أعظم الصور في مجالسنا ومن أخطرها على كثير من الناس إطلاق العنان للسان في التحليل والتحريم والسخرية والاستهزاء بالدين , هذه من أخطر الصور التي نرى أنها تفشت في مجالس المسلمين أياً كانوا , رجال أو نساء كبار أو صغار , وخاصة بين الشباب والعوام.
إنك لتسمع وترى تسرع فئات من الناس في إطلاق ألفاظ التحليل والتحريم وقد نهى الله تعالى عن ذلك ونهى عن المسارعة في إصدار التحريم والتحليل فقال وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116).
وكان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم مع سعة علمهم وفقههم لا يكثرون من إطلاق عبارات التحليل والتحريم وهذا من شدة ورعهم ومحاسبتهم لأنفسهم.
يقول الإمام مالك رحمة الله تعالى عليه : (لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون : نكره هذا , ونرى هذا حسناً , ونتقي هذا ولا نرى هذا , ولا يقولون حلال ولا حرام) انتهى كلامه من جامع بيان العلم وفضله.
أما نحن فنسمع عبارات التحليل والتحريم على كل لسان وخاصة من العامة , بدون علم ولا ورع ولا دليل مما أثار البلبلة عند الناس والتقوّل على الله بغير علم , بل المصيبة أن بعض الناس يسخر ببعض أحكام الدين ويهزأ بالصالحين والناصحين , وربما سخر باللحية أو سخر بالثوب القصير أو سخر ببعض سنن المرسلين والعياذ بالله , وهؤلاء والله إنهم على خطر عظيم , ألم يسمع هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم وإن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (الهمزة:1)، الهمزة هو الطعان في الناس , واللمز الذي يأكل لحوم الناس.
ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات:11).
ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل : ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18).
سبحان الله ! غابت عليهم هذه النصوص من القرآن والسنة , غفلوا عن خطر ما يتقولون بالليل والنهار في السخرية والاستهزاء بالدين , وربما خرج بعضهم والعياذ بالله من الدين بسبب كلمة يقولها وهو لا يشعر , فحق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شانه.
النتيجة النهائية لإطلاق العنان للسان .
أقول أيها الحبيب المسلم أنك أحوج ما تكون للعمل الصالح، أحوج ما نكون إلى الحسنات , وأراك تحرص على مجاهدة النفس لعلها أن تعينك على القيام بعمل صالح، من صلاة أو صيام أو صدقة وقد تنتصر عليها وقد لا تنتصر , وإن انتصرت عليها وقمت بالعمل فلا يسلم من شوائب كثيرة مثل الرياء والنقص وحديث النفس وغيرها من مفسدات الأعمال , ومع ذلك كله فإني أراك تبث هذه الحسنات في المجالس وتنثرها في المنتديات.
ماذا تراكم تقولون أيها الأخيار في رجل أخرج من جيبه عشرات الريالات ثم نثرها في المجلس و بددها ؟
ماذا نقول عنه ؟ أهو عاقل أم مجنون ؟
إن من جلس مجلساً ثم أطلق للسانه العنان فهذه علامة أكيدة على إفلاسه في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون ما المفلس ؟ " قالوا : المفلس منا من لا درهم له ولا متاع .. فقال :"إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة , ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا , فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته , فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) والعياذ بالله والحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتـُأدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم، حتى البهائم يفصل بينها يوم القيامة!!
فاحفظ حسناتك فأنت أحوج لها، واسمع لفقه الحسن البصري رحمه الله يوم أن جاء رجل فقال: ( إنك تغتابني , فقال : ما بلغ قدرك عندي أن أحكّمك في حسناتي).
وعن ابن المبارك رحمه الله قال : ( لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والديّ لأنهما أحق بحسناتي).
ففقها رضي الله عنهما أن آفات اللسان تأتي على الحسنات وقد لا تبقي منها شيئاً، فضياع الحسنات نتيجة أكيدة لإطلاق العنان للسان.
نتيجة ثانية لإطلاق العنان للسان:
فضحه وبيان عواره وهتك أستاره، ذلك الذي أطلق لسانه وأصبح يتكلم بلا ورع في المجالس والمنتديات وربما أصبح بذيء اللسان والجزاء من جنس العمل، وعن أبي بردة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه , لا تتبعوا عورات المسلمين ولا عثراتهم فإنه من يتبع عثرات المسلمين يتبع الله عثرته , ومن يتبع الله عثرته يفضحه وإن كان في بيته ) والحديث صحيح بمجموع طرقه.
والواقع يشهد بذلك فكم فضح الله حقيقة أولئك الذين آذوا إخوانهم بألسنتهم حتى عرفهم الناس وانكشف أمرهم.
وأيضاً من نتائج إطلاق العنان للسان أنه يعد من شرار الناس فيجتنبه الناس ويحذرونه اتقاء فحشه وإن ضحكوا له وجاملوه، هذه حقيقة نشاهدها في مجالسنا كثيراً , إن من أطلق للسانه العنان يعد من شرار الناس فلذلك تجد الناس يجتنبونه ويحرصون على الابتعاد عنه وإن ضحكوا له وجاملوه فاتقاءً لفحشه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة : ( إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء شرّه) البخاري ومسلم.
رابعاً : من النتائج أيضاً وهي الأخيرة :
البلاء موكل بالقول , فيُبلى المتكلم بما كان يذكره في أخيه , و احذر أيها الحبيب أن تظهر الشماتة بأخ أو أخت لك فيعافيه الله ويبتليك بما كان فيه فالبلاء موكل بالقول، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك ) أخرجه الترمذي0.
وقال إبراهيم التيمي: ( إني لأجد نفسي تحدثني بالشيء فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى ب).
وقال ابن مسعود : ( البلاء موكل بالقول , ولو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلباً).
هذه نتائج أربع من نتائج إطلاق العنان للسان.
وأخيراً أقول أيها المسلم هذه شذرات حول اللسان، وأظن أن الجميع بحاجة ماسة للتذكير فيها , فالعاقل يحرص والغافل يتنبه والمبليّ يحذر , يا أيها السامع كن المستفيد الأول.
ثم اعلم أنك تجالس كثيراً من الناس من أحبابك وخلانك وأصدقائك , ولا تخلو مجالس من غثاء قلّ أو كثر , فمن حقهم عليك أن يسمعوا مثل هذا الكلام وأن يذكّروا بهذه الآيات والأحاديث , فإن القلب يغفل والنفس تسلو فاسمع وسمّع واستفد وأفِد , والدال على الخير كفاعله.
أسأل الله عز وجل أن يكون خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به الجميع وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
اللهم طهّر قلوبنا من النفاق وعيوننا من الخيانة وألسنتنا من الكذب والغيبة النميمة والمراء والجدال وجنبنا الوقوع في الأعراض.
اللهم اجعل ألسنتنا حرباً على أعدائك سلماً لأوليائك.
اللهم إنا نسألك سكينة في النفس وانشراحاً في الصدر.
اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين ومن جندك المخلصين وانصر بنا الدين واجعل لنا لسان صدق في الآخرين.
اللهم انفعنا وانفع بنا.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
( تم تفريغ الشريط من قبل إحدى الأخوات جزاها الله الفردوس وجعل ذلك في موازين حسناتها).
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب، بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
- الاستئذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك إلى قيام الساعة.
في اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الـجـليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
| | | | | | | | | |